الآنسة حنفي والأستاذ نور

الآنسة حنفي والأستاذ نور

26 يونيو 2020

(بول غيراغوسيان)

+ الخط -
من يعرف أن فيلم "الآنسة حنفي" الذي أنتج عام 1954، وأخرجه المبدع فطين عبد الوهاب، استمد أحداثه من حكاية حقيقية لفتاة تدعى فاطمة، أجرت عملية تحويل جنسي في مستشفى القصر العيني في القاهرة، لتتحول إلى "ع بعد أن قري"، الشاب الوسيم الذي تزوج فتاة من قريته اسمها فاطمة أيضا؟! هذه الحكاية التي شغلت وقتها الرأي العام المصري، قرأ عنها الكاتب جليل البنداري، مؤلف الفيلم، واشتغل على الشخصيات لتصبح أكثر كوميديةً، خصوصا أن بطل الفيلم هو إسماعيل ياسين، وكان في الفيلم هو الأستاذ حنفي، كاره النساء الذي يرفض الزواج من ابنة زوجة أبيه، وعندما يُجبر على ذلك، وفي ليلة الدخلة، يصاب بعارضٍ صحي يضطره لدخول مستشفى القصر العيني، وهناك يكتشف الأطباء أن جسد حنفي يمتلك صفاتٍ أنثوية أكثر من الذكورة فيجرون له عملية تحويل جنسي، ويصبح بعدها: الآنسة حنفي. 
وبالطبع، لا يمكن لأحد الآن أن يقرّر ما إذا كان المصريون في ذلك الوقت رافضين الحكايتين، الحقيقية والفنية، أو مستهجنين إياها. لم يكن هناك مدوّنات إلكترونية وصفحات زرقاء ليعبر الناس عن آرائهم من خلالها، ما وصلنا هو ما بقي من أرشيف صحافة تلك الأيام، والفيلم الذي يعرض منذ أكثر من سبعين عاما، من دون أن يتم إتلافه أو منع عرضه في الصالات، ما يعني أنه لم تكن هناك احتجاجات شعبية كبيرة على قصته إلى درجة منع عرضه. ولم يذكر أحد أن إسماعيل ياسين تعرّض لمضايقاتٍ بسبب هذا الدور، ولا بسبب غيره من أدوارٍ مثل فيها دور أنثى، لا هو ولا عبد المنعم إبراهيم الذي اشتهر بتمثيله دور الأنثى، خصوصا في فيلم "سكر هانم". كانت هنالك مساحة من التسامح والبراح في التعامل مع السينما، ومع الواقع أيضا.
في أواخر تسعينيات القرن الماضي، ظهرت ممثلة كوميدية مصرية اسمها حنان الطويل. لم تمتد مسيرتها الفنية سوى أعوام قليلة جدا، فقد توفيت في ظروف غامضة عام 2004. كانت حنان الطويل شابا يدعى طارق من مدينة الفيوم، وكان يشعر دائما أنه غريب عن عالم الرجال، وكان يتعرّض للسخرية بسبب سلوكه الأنثوي. سافر إلى الخارج، ثم يعود باسم حنان الطويل، بعد أن أجرى عملية تحويل جنس. لم يمر الأمر بسلام طبعا على حنان، فجيرانها وأقاربها حاربوها بكل الوسائل، وقدّموا بها بلاغات للشرطة، واحتجزوها في مستشفى الأمراض العقلية بذريعة أنها مجنونة، حتى انتهت حياتها فجأة من دون أن يعرف أحد السبب.
بعد أكثر من خمسين عاما من حكاية فاطمة إبراهيم، أصبح الناس أقل تسامحا مع حالات التحويل الجنسي. لكن مهلا، تخلت حنان الطويل عن الرجولة لصالح الأنوثة، على عكس فاطمة، وهو أمرٌ يجب ألا يغيب عن بال أحد، فالمجتمع الذكوري يطعن هنا في صميم معناه، وهي طعنةٌ ليس من السهل التسامح معها. ومرة أخرى، لم تكن مدونات إلكترونية وصفحات زرقاء تكشف حجم الرفض أو القبول الشعبي لحالات كهذه. ولكن من الواضح أن مساحة القبول والتسامح قلت كثيرا عن بدايات القرن، إذ إن الأصولية الدينية، بفتاويها المتكاثرة، كانت قد تمكّنت تماما من السيطرة على منظومة العقل الجمعي العربي.
يعود النقاش نفسه، في عام 2020، مع إعلان ممثل مصري أن ابنته نور تحولت إلى ابنه نور، بعد أن أجرت عملية تحويل جنسي. نحن الآن أمام سيلٍ جارف من الآراء على وسائل التواصل، مؤيدة وأخرى رافضة، مرحبة وشاتمة، غير أن نور هي ابنة شخصية عامة أولا، وتحولت إلى شاب ثانيا، لا العكس. ثمة مساحة هنا للعيش بسلام، يفرضها التفوق الطبقي من جهة، والميل الذكوري لاكتساب ذكر جديد في المجتمع، وهو ما لم ينكره الفنان، والد نور، في إحدى مقابلاته.
كشفت وسائل التواصل ميل المجتمعات العربية الحقيقي، في ما يخص موضوعات الميول الجنسية وتحولات الجسد، وكشفت المدى الذي بلغته الأصولية الدينية في وعي العرب، حتى أن بعضهم صار يزايد في فتاويه على دور الإفتاء نفسها، وحتى على الأزهر الشريف. ولعل ما حدث إثر انتحار الشابة الكويرية، سارة حجازي، من انقسام مريع بشأن موضوعات الحريات الجنسية والانتماءات العقائدية والخيارات الشخصية قد يدل على أن ثمّة أزمات كبيرة في المجتمعات العربية لا يحلها التغيير السياسي فقط، بل تحتاج ثوراتٍ فكرية كبيرة تتلازم في المسار مع الثورات السياسية، وإلا فنحن، في القرن الحادي العشرين، سنجد أنفسنا في عصور الانحطاط بكل تفاصيلها.
BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.