اكتشاف القدس.. المدينة المحتلة تفتح ذراعيها لأبنائها للمرة الأولى

اكتشاف القدس.. المدينة المحتلة تفتح ذراعيها لأبنائها للمرة الأولى

القدس المحتلة

محمد عبد ربه

avata
محمد عبد ربه
01 يوليو 2015
+ الخط -
بالكاد تتسع البلدة القديمة من القدس لطوفان من فلسطينيي الضفة الغربية المحتلة ومن بينهم مئات الغزيين. تلامس قلوب الكثيرين منهم روح المدينة المقدسة. مدينتهم التي حرموا من دخولها منذ أكثر من عقدين قبل أن تلامس أيديهم الراجفة ودموع البعض منهم حجارة أزقتها العتيقة، ليكتشفوا عظمة تاريخهم، وعظمتهم كشعب تتداخل مساكن قاطنيها من مسلمين ومسيحيين تداخل أعضاء الجسد ببعضها البعض.
هذا الطوفان من البشر وجله من الشباب أتوا بصحبة ذويهم إلى المدينة التي يسمح الاحتلال الإسرائيلي بدخولهم إليها. وقد حدد لهم مسار الطريق إلى بلدتها القديمة، وإلى مسجدها الأقصى. وحظر على الغزيين الخروج منها بأي بضاعة بعد انتهاء التصريح. لكن حين الولوج إلى داخلها يصبح المسار فلسطينياً بامتياز، وإن ملأ جنود الاحتلال الأزقة، ووقفوا مشدوهين وكأن على رؤوسهم الطير، أو أنهم لم يستوعبوا مشهد هذا الطوفان من البشر الذي يواصل تدفقه على مدار الأسبوع ليصل إلى منتهاه وذروته يوم الجمعة، حيث سجلت الجمعة الثانية من رمضان حضور أكثر من 400 ألف مصلّ، وهو عدد غير مسبوق من المصلين تفيض بهم ساحات الأقصى، وتزدحم بأعدادهم الهائلة أسواق البلدة القديمة وحاراتها حتى بالكاد أن تجد موطئ قدم في مساحة البلدة القديمة التي لا تتجاوز الكيلو متر المربع الواحد.

إقرأ أيضاً: قيود الاحتلال لا تمنع "الشيخ" من دخول القدس

مدينة تفتح ذراعيها لأبنائها، وقد عزّ اللقاء، وبلغ الشوق إليها مداه لجيلين من الشباب الفلسطيني. عاشوا على مدى أكثر من عقدين انتفاضتين، حرمهم الاحتلال خلالها من دخول القدس التي باتت لكثيرين منهم مشهد أو لقطة في خبر أو تقرير أو مقطع من فيلم وثائقي. هكذا عرفها جيلان من شباب الضفة وغزة، ولعل غزة الأكثر حرماناً من دخولها.
كان الاغتراب القسري عن القدس بدأ في العام 1993، حين قرر الاحتلال ممثلاً بوزير جيشه إسحق رابين، أن يطوق القدس ويحاصرها بحواجز التفتيش المذلة، وأن يمنع غير سكانها من الفلسطينيين من دخولها. حدث ذلك بعد ثلاثة أعوام من مجزرة الأقصى الشهيرة التي اقترفتها شرطة الاحتلال في الثامن من أوكتوبر/تشرين الأول من العام 1993، وارتقى خلالها 18 شهيداً، وسقط مئات الجرحى، بعدما تصدّوا لمحاولة الحاخام المتطرف غرشون سلمون، إدخال ما يسمى بحجر الأساس لبناء هيكلهم المزعوم.
ولم تلبث تلك الحواجز أن تحولت بعد سنوات قليلة، أي بعد مجزرة الأقصى الثانية في العام 2000، إثر تدنيس وزير الدفاع الإسرائيلي آنذاك أرييل شارون باحات الأقصى في الثامن والعشرين من سبتمبر/أيلول العام 2000، ما أدى إلى اندلاع انتفاضة دامية أوقعت مئات الشهداء من الفلسطينيين، وصعدت من جذوة المقاومة، فتقرر تحويل الحواجز العسكرية حول القدس المحتلة إلى حواجز دائمة، إلى أن بلغ عددها أكثر من 30، ثم دخل حصار القدس وفصلها جغرافياً وديمغرافياً عن محيطها الفلسطيني مرحلة أكثر خطورة عبر بناء جدار الفصل العنصري الذي يطبق على القدس كما الأفعى على فريستها. وبات الدخول إليها محكوماً بتصريح لمن تجاوزت أعمارهم سن الخمسين والستين، فيما منع الشباب عنها، وبات دخولهم محفوفاً بالمخاطر، فسقط أمام الجدار شهداء حاولوا الدخول إلى مدينتهم سعياً وراء لقمة العيش، وتحطمت عظام كثيرين من الشباب، وهم يحاولون الوصول للصلاة في مسجدها الأقصى أيام الجمع وفي شهر رمضان تحديداً.
"من للقدس إلا أنت"، كان هذا النشيد المحبب لجيلين من الشباب حرموا من عناق مدينتهم، وكانت روح المغامرة تتحكم في كثيرين منهم، وهم يراوغون جنود الاحتلال كي يدخلوها خلسة ورغماً عنهم، حتى لو تكدسوا بالعشرات داخل حافلة أو ثلاجة لنقل اللحوم والخضر.
رمضان هذا العام، وكما سبقه كان مختلفاً بالنسبة لهؤلاء، لقد منح الاحتلال ما سمّاه "تسهيلات" للفلسطينيين، نكاية بالسلطة الفلسطينية وعقاباً لها على جمود العملية التفاوضية، والتي كلفت الفلسطينيين منذ أوسلو وحتى الآن ثمناً باهظاً من كرامتهم وأرضهم وحريتهم، وحقهم الأساس في الحركة والتنقل، فازدحمت المعابر بطوفان من الشباب، فيما اختار آخرون الطريق الصعب والمؤلم والذي قد يكلفهم حياتهم أو يودي بهم إلى السجن إن وقعوا في قبضة الاحتلال.
يروي أحد المواطنين المقدسيين كيف أقلّ في سيارته أربعة فتية من قرية قرب رام الله، تسللوا إلى القدس قفزاً عن جدار الفصل العنصري قرب ضاحية البريد شمال القدس، بعدما استوقفوه وطلبوا مساعدته للوصول إلى القدس. يقول "كانوا طيلة الطريق يتحدثون عن حرمانهم من مدينتهم التي يعرفونها عبر وسائل الإعلام وشاشات التلفزة، ويردّدون: والله حرمونا منها. وكانت نظراتهم إلى الخارج تشي بشيء من الخوف من أن يعتقلوا في الطريق قبل أن يحققوا أمنيتهم بدخول القدس والصلاة في الأقصى، وحين وصلوا مدخل باب العامود أو ما يعرف ببوابة دمشق، أجهش اثنان منهم بالبكاء، بينما عانق الاثنان الآخران زميليهما قبل أن ينطلقا مسرعين إلى داخل الأسوار، حيث اختفيا بين الجموع".
في البلدة القديمة ذاتها كان المشهد أكثر حضورا، لقد بدأت مرحلة جديدة من اكتشاف القدس لكثيرين من هؤلاء، الذين التقطوا الصور لكل شيء، بدءاً من الحجر العتيق، وليس انتهاء بأكشاك الكعك والفلافل والعصائر. وآثر كثيرون أن يلتقطوا "سيلفي" مع أصدقائهم، ومع أهالي وتجار المدينة الذين وجدوا في حضورهم مناسبة تنتعش بها أسواقهم ومحلاتهم، بينما بادر نشطاء مقدسيون إلى توزيع خرائط فلسطينية حددت لهم مسارات الانتقال لكل زاوية في البلدة القديمة، بعدما اختلط الأمر على شبان تاهت خطاهم إلى الأقصى، فدخلوا أحواشاً لمقدسيين مثل حوش الجالية الإفريقية ظناً منهم أنه المدخل الرئيسي للأقصى.
كان المشهد مستغرباً من قبل المقدسيين، بحيث بدا أبناء جلدتهم أشبه بسياح أجانب في مدينة هي قلب فلسطين، وهي روحها النابضة. مدينة تكتشف أبناءها لأول مرة، وقد حرموا منها منذ أوسلو وحتى الآن، فيما أعاد المشهد لبعض المقدسيين ما وراء ما قاله الشاعر العربي ذات يوم لأحد الملوك العرب: المسجد الأقصى أجئت تزوره، أم جئت من قبل الضياع تودعه.

المساهمون