اغتيال سليماني.. كيف التعامل مع الزلزال؟

اغتيال سليماني.. كيف التعامل مع الزلزال؟

12 يناير 2020
+ الخط -
لم يجسّد شخصٌ الاستكبار الأميركي، في أكثر صوره سلبية، كما يجسده الرئيس ترامب، فمن غياب أية روادع أخلاقية تردعه عن خلط المصلحة الشخصية بالمصلحة العامة، إلى غياب أي احترام للدستور والقانون الوطني الأميركي يدفعه إلى الشفافية بشأن التزاماته الضريبية، إلى غياب أي احترامٍ للاتفاقات والمعاهدات الدولية التي أبرمها أسلافه، إلى احتقار القانون الدولي المتمثل في معاهدات جنيف الخاصة بواجبات الدول القائمة بالاحتلال وحقوق الشعوب الواقعة تحت الاحتلال، وأخيراً إلى أمره بارتكاب الجريمة الوضيعة، المتمثلة في اغتيال أحد كبار المسؤولين في دولةٍ مستقلةٍ ذات سيادة على أرض دولةٍ أخرى مستقلةٍ ذات سيادة، من خلال اختراق سيادة هذه الدولة الأخيرة، وهو ما شكل، في رأي كثيرين، زلزالاً ينذر بعواقب أصبحت مثاراً لكثير من الجدل والتنوع في الاجتهادات والتنبؤات. 
من خصائص الزلازل الجسيمة أنها تترافق مع تحرّك الصفائح الجيولوجية الكبرى، وانتقالها من مواقعها بصورةٍ قد تغيّر من التضاريس الجغرافية لموقع الزلزال. وبهذا، قد يشكل الزلزال فرصةً للسكان في موقع الزلزال، لننظر نظرة جديدة إلى الموقع، وما قد يكون الزلزال قد كشف عنه من أرضٍ خصبة، أو ثرواتٍ طبيعية قابلة للاستغلال. ولذلك من قِصر النظر أن يكون رد الفعل على الجريمة هو المبادرة إلى "الانتقام" في صورته الساذجة، وهي الرد على فعل القتل بفعل قتل مقابل، ما يعني الانزلاق إلى دوّامةٍ من العنف المدمر، لعله الهدف الفعلي لسياسة ترامب ونتنياهو وحلفائهما في محور الاستكبار العالمي، من أجل إلحاق مزيد من الدمار والفشل بدول المنطقة. وحتى بالافتراض المتفائل، فإن مسلسلا من العنف على قاعدة "العين بالعين" ينتهي بإلحاق العمى بجميع الأطراف، كما بيّن لنا، منذ زمن، الروح العظيم غاندي.
رد الفعل المجدي والفعّال أن تعمَد إيران وحلفاؤها في محور المقاومة إلى تمثّل التضاريس 
الجديدة التي أحدثها الزلزال، واللجوء إلى مقارباتٍ تُحدث انقلاباً في المعادلات والمسلّمات القائمة، وتستوحي استراتيجيةً مبتكرةً مفارقة للعطالات البالية المحمولة من رواسب الماضي المندثر، المستشرفة آفاقاً إيجابية جديدة، مرتكزة إلى الجوامع التي تجمعها مع دول الجوار العربي، والنافية عوامل الفرقة والخلاف. أهم الجوامع هو التشارك في الجوار الجغرافي، وفي الثروات الطبيعية، وفي الانتماء إلى الإسلام التوحيدي والرسالة المحمدية. والتشارك كذلك في الإرث الحضاري والعلمي الذي مثّله عديدون من أعلام الحضارة العربية ذوي الأصول الفارسية، أمثال البيروني وابن سينا وابن الهيثم وسيبويه. والتشارك أيضاً في أن العدو المميت لإيران والعدو المميت للجوار العربي هو ذاته الهيمنة الأميركية والصهيونية الغاصبة. وأهم المفرّقات من الجانب الإيراني هي هواجس الفوقية العنصرية الناجمة عن فهم متخلّف للتاريخ والتراث والدين. ومن الجانب العربي، غياب الديمقراطية، واستبدال بعض الأنظمة، ناقصة التمثيل لشعوبها حماية توفرها التبعية للقوى الأجنبية بالحماية التي يوفرها التمثيل الأمين لشعوبها. ومن المفرّقات المشتركة بين الجانبين الاستنكاف عن التعامل العلمي الحضاري لتسوية الخلاف السياسي الذي نشأ في فجر الإسلام بين شيعة الإمام علي كرم الله وجهه وأنصار المُلك العضوض من الأمويين والعباسيين الذين نجحوا، فيما بعد، في إدخال الدين الإسلامي في قوالب الجمود، وإغلاق باب الاجتهاد. ولا بد من المبادرة إلى تعاون كثيف بين حكماء الإسلام المستنير من الإيرانيين والعرب، لتسويةٍ حاسمةٍ مستنيرة لهذا الخلاف الجاهلي الذي لا مكان له في القرن الواحد والعشرين.
ومن مجمل ردود الفعل الإيرانية على جريمة اغتيال القائد قاسم سليماني، البداية الصحيحة المنسجمة مع الاستراتيجية المبتكرة التي ندعو إلى اجتراحها، الدعوة إلى إجلاء القوات الأميركية والأجنبية من الإقليم إجلاء كاملاً، ابتداء من العراق. ولكن هذه الدعوة الصائبة تبقى غير مكتملة، وبالتالي غير مجدية، إذا لم يصحبها انقلابٌ جذري في السياسة الإيرانية تجاه دول الجوار العربية. وجوهر هذا الانقلاب هو تصفير الخلافات ومواطن النزاع تصفيراً مطلقاً، لا ينظر إلى الخلف إلا ليستوحي دروس التاريخ الإنساني، مثل ما حدث بعد الحرب العالمية الثانية من تصفير الخلافات بين ألمانيا وفرنسا، بعد أن كانتا عدوين مميتين بعضهما لبعض، فبلغت ضحايا هذا العداء في الحربين العالميتين ملايين الضحايا من الجانبين، فلم يمنع ذلك من بداياتٍ خلاقة لعهد جديد جعل من ألمانيا وفرنسا الركنين الأساسيين في المجتمع الأوروبي الجديد. لذلك لا نتردّد في أن نزكّي لإيران أن يكون ردها على العدوان الأميركي والصهيوني رداً جريئاً خلاقاً منطلقاً من هذا الدرس التاريخي، فتعمد إلى مبادرات ثلاث متتابعة على التوالي:
الأولى: تمكين الاستقلال الوطني العراقي وتحصينه ضد أي مظهر أو ممارسة تشي بتدخّلٍ 
خارجي يخلّ بهذا الاستقلال، بالترافق مع تطهير العلاقات الإيرانية العراقية من رواسب حرب الثماني سنوات، وبالترافق مع إعادة كتابة الدستور العراقي من ممثلين أمناء وأكفاء للشعب العراقي، بصورة تقود إلى تعزيز المؤسسات والممارسات الديموقراطية الصحيحة، مع محو جميع أشكال التمييز الطائفي والإثني، وتعزيز المساواة المطلقة بين المواطنين من جميع أطياف الشعب العراقي، وبما يمكّن هذا الشعب من امتلاكه مقدّراته، والاستقلال بإرادته الوطنية استقلالا كاملا.
الثانية: إعادة جزر طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى إلى الإمارات، كخطوة غير مشروطة لإعادة بناء الثقة.
الثالثة: الدعوة إلى مؤتمر إقليمي دولي، لتدارس مقتضيات الأمن المشترك لدول الجوار العربي الفارسي، ينتهي بمعاهدة تصفّر الخلافات بين دول المنطقة، وتوحّد تصدّيها للاحتلال والاغتصاب الصهيوني، وتحيّدها عن الخلافات الدولية.
لا نتوقع أن ردود فعل الدول العربية على هذه الاستدارة الضخمة في السياسة والسلوكيات الإيرانية ستكون إيجابية وسلسة وشاملة لجميع هذه الدول. ولكنها تشكل هدفاً يستحق أن يستقطب حوله، ويحشد لنصرته، الرأي العام في جميع هذه الدول. ولا بأس أن يشمل هذا الاستقطاب والحشد زعامات عربية وإسلامية مثل أمير الكويت ورئيس تونس والرئيس الماليزي مهاتير محمد. .. "وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون".