اغتصاب الشّعر!

اغتصاب الشّعر!

30 يونيو 2019
+ الخط -
تُطالعنا بين حين وآخر، منشورات لأشخاص باتت تُعدّ في عرف مدوّنيها على أنّها من عيون الشعر، ما يمكن أن يطلقوا على أنفسهم بالشعراء المحدثين، أو شعراء التفعيلة، وبالكاد، فإنَّ بعضهم يعرف كيف يصوغ مفردة شعرية جميلة تُبهج القلب وتُفرح النفس، ما يعني أنهم يُوهمون العامّة بأنهم شعراء، وبصورةٍ خاصة السذّج منهم، والانغماس في هذه الموهبة - المجروحة وتحوّلهم بين ليلة وضحاها إلى شعراء، يُشار إليهم بالبَنان، وفي ظنّهم أنَّ في مقدرتهم إطلاق الشرارة الأولى التي يمكنها أن تقرّبهم إلى قلوب الناس، واهمين بأنهم سيحققون حظوة ستخلّد ذكرهم وتاريخهم الحافل كشعراء، وتحقّق مرادهم كمبدعين، والتحليق بطيف أحلامهم لمجرد كتابة بعض المفردات التي أطلق عليها تسمية مفردات شعرية، وهي في الحقيقة تشبه كل شيء إلاَّ الشِعر، وفي هذا تفاخر غريب يُراد من خلاله فرض بعض الهواة أنفسهم في عالم الشعر!

ومنذ فترة قصيرة، جمعتني علاقة غير مباشرة عبر شبكة التواصل الاجتماعي، مع أحد منتجي الشعر ومبدعيه، وطلب مني إبداء رأيي الشخصي حول مقطع شعري، سبق أن نشره عبر مواقع التواصل الاجتماعية، وفي الواقع ليس لديّ الخبرة الكافية التي تجعلني قادراً على نقد أو تقييم أعمال الآخرين الشعرية، فاكتفيت بالسكوت، ولم أدلِ بدلوي تحسباً من أن يكون له موقف ما حيال ما سأعلق عليه، ولكن في قرارة نفسه يعي أن ما كُتب ليس له أية علاقة بالشعر، وبفحوله الذين نذروا أنفسهم في حبّه، وفي انفعالاته وفي تحسين الصورة التي بدت في طور جديد، وأخذت نبضاً آخر ساهمت في تجديده، وإن ظل الأغلبية من الأفراد نبذوا هذا النوع من الشعر الذي لم يكن سوى تجميع صور، وتسويق همّ يومي، وحالة عاشها الشاعر لمجرد موقف ما، ومنهم من أبدع وترك إرثاً يُحسد عليه، وفي هذا من أثبت مكانه بين الشعراء، ومثالهم ما زال اسمه يتداول، وبشوق وبحب جارف، وإن ارتحل إلى الحياة الدنيا، لأنه أطرب الأفئدة، وحلّق بنا بعيداً في عالم من السحر.


وما تناوله بعضهم مجرد كلمات تعبّر عن مكنون داخلي، ومن غير اللائق أن نطلق على ما كتبه له أية علاقة بالشعر، والكل يعلم، أنّ هذا المجال من فنون الإبداع باتت تلفّه ترّهات معيّنة، وقادر على اختراق القلوب لمجرد سماع كلماته المخملية التي تحاكي الضمير والوجدان، ويختصر الكثير من الرؤية التي يراها الآخرون من البشر.

وعندما يحضر الشعراء الكبار من أمثال نزار قباني، طيّب الله ثراه، يختفي مدّعو الشعر وما أكثرهم، وهم اليوم، يشكلون أعداداً ضاقت بهم أعمدة الصحف ومواقع التواصل الاجتماعي.. وللأسف، نجد أنَّ القصيدة لديهم مجرد كلمات مصفوفة في إطار هامشي لا معنى ولا لون لها، ويباركون لأنفسهم أنهم شعراء، وشعراء كبار، ويتغنون بذلك، وهم ليس لهم لا بالعير ولا بالنفير، ويفاخرون على أنهم صاروا بمثابة عنترة، والمتنبي، وأبي تمام، والبحتري.

إنّ الشعر الحديث هو الشعر الذي ظهر في بِدايات القرن العشرين، وانتشر بشكلٍ كبير مع ظهور العديد من الشعراء، حين طوّروا اللغة الشعريّة التي امتازت باستخدام العديد من المفردات، والتعابير التي لم تُستخدم في معظم القصائد السابقة، وذلك بسبب مجموعةٍ من العوامل التي أثّرت على البنية الشعرية الحديثة، ومنها: التغيرات الزمنية، وظهور العديد من المفاهيم التي لم تكن معروفةً سابقاً، كما أنّ الأسلوب الشعري تميّز ببساطته، وساهم في انتشار الشعر الحديث بين الناس. ما زالت القصائد المكتوبة بالأسلوب الحديث تُستخدم في العديد من المؤلفات، والمناهج الدراسية. ومن أبرز روّاده بدر شاكر السيّاب، إبراهيم طوقان، أبو القاسم الشابي، حافظ ابراهيم، عمر أبو ريشة، سميح القاسم.

أما شعر التفعيلة، فهو الشعر الذي يتخذ التفعيلة أساساً عروضياً للقصيدة، وهو لا يتقيد بعدد معيّن من التفعيلات في السطر الواحد، بحيث قد يشتمل السطر على تفعيلة أو أكثر، ويخرج هذا الشعر عن مبدأ تساوي الأشطر، ولا يلتزم بقافية واحدة في كامل القصيدة، ومن أسمائه: الشعر المرسل، والنظم المرسل المنطلق، والشعر الجديد، والشعر الحر.

نشأة شعر التفعيلة على يد الناقدة نازك الملائكة في بغداد بعد أن أصدرت قصيدة "الكوليرا" في تشرين الأول من عام 1974.. وكان قد أصدر الشاعر عبد الوهاب البيّاتي ديوانه (ملائكة وشياطين) عام 1950، وأضاف بهذا صفات جديدة إلى حركة الشعر العربيّ؛ الذي انصهر بمقاومة الشعب العراقيّ، مستغلّا الحرية التي أتاحها شعر التفعيلة من أجل التعبير عن همومه وإظهار آماله، وتوالت بعد ذلك العديد من الدواوين الشعرية، وأصبحت الدعوة لشعر التفعيلة تأخذ مظهراً أكثر قوّة من السابق بظهور شعراء جدد، منهم: صلاح عبد الصبور، أحمد عبد المعطي حجازي، أمل دنقل، أدونيس، خليل حاوي، نزار قبّاني، بدر شاكر السياب، فدوى طوقان، محمود درويش، محمد الفيتوري، محي الدين فارس، وغيرهم.

لن أقول أكثر مما قلت. القارئ وحده هو القادر على معرفة الغثّ من السمين..!!

بالمختصر.. الشاعر تبقى له حساسيته المفرطة حيال ما يكتنزه من قيم إنسانية، وصور وجدانية، وكما أظن، ويعلم غيري، يختلف كليةً عن الكثيرين، وتظل دخيلته، لها مزاجها الخاص، وهو وحده القادر على توظيف ما يجول بخاطره من إبداع شعري يُحقّق الهدف والغاية مما يريد أن يوصله إلى القارئ الذي صار رهين ما يقرأ، وما يُرْسَمُ له من صور شعرية بحاجة إلى التقشير بالسيف البتّار حتى يمكن أن يفهمها ويعيها المتابع الذي صار قادراً على تقييم ما يمكن أن يخدم أكبر شريحة من الروّاد، محبّي الشعر، بصورةٍ عامّة، ما يعني انتحار الشعر واغتصابه، والذي سمح لكل من هبَّ ودبّ أن يتطاول على مبدعيه وروّاده.

دلالات

6C73D0E8-31A0-485A-A043-A37542D775D9
عبد الكريم البليخ
صحافي من مواليد مدينة الرقّة السوريّة. حصل على شهادة جامعيَّة في كلية الحقوق من جامعة بيروت العربية. عمل في الصحافة الرياضية. واستمرّ كهاوي ومحترف في كتابة المواد التي تتعلق بالتراث والأدب والتحقيقات الصحفية.