استفتاء كتالونيا والرفض الأوروبي

استفتاء كتالونيا والرفض الأوروبي

30 أكتوبر 2017

متظاهرون في مدريد يرفضون استقلال كتالونيا (28/10/2017/Getty)

+ الخط -
على الرغم من التعاطف الشعبي الأوروبي مع الاستفتاء في إقليم كتالونيا في إسبانيا، إلا أنّ المواقف الرسمية أبقت على حذرها وترقبها تبعات الأحداث في الإقليم، مدركة أنّ الاستفتاء حال تحصيل استحقاقه بإعلان الاستقلال والانشقاق عن إسبانيا، الدولة الحاضنة والمانحة لحقّ الحكم الذاتي، فإنّ استفتاءات أخرى قد تندلع في القارّة الأوروبية، متسبّبة بتقسيم الاتحاد وشرذمته، وهذا آخر ما ترجوه بروكسل، في هذه الأوقات الصعبة التي تمرّ بها القارة الأوروبية، تزامنًا مع الاختلاف الملحوظ في سياسة ما خلف الأطلسي تجاه أوروبا، واستمرار وتائر القلق ومخاطر الإرهاب الدولي واللجوء والقرصنة الإلكترونية.
وتحول سلسلة من القوانين الأوروبية دون القبول بنتائج الاستفتاء الكتالوني، وذلك لجملة من الأسباب أهمّها عدم شرعية هذا الاستفتاء، لأنّ مدريد هي المخوّلة بالدعوة إلى عقده من دون سلطة الحكم الذاتي في برشلونة، كما حدث في إيرلندا، فقد دعت لندن إلى عقد الاستفتاء لمعرفة موقف الشعب الإيرلندي بشأن مستقبل العلاقة المركزية بالمملكة المتّحدة، وجاءت النتائج، كما هو معروف، لصالح الإبقاء على حبل السرّة مع لندن، والحفاظ على الامتيازات ذات العلاقة. وترغب غالبية الشعب الكتالوني بعدم الانفصال عن المنظومة الأوروبية، لكن إعلان استقلال دولتهم وعاصمتها برشلونة يعني كذلك انفصالها عن الاتحاد الأوروبي، وليس فقط عن إسبانيا، وبدء مرحلة جديدة من البحث عن الاعتراف الدولي، المرهون بعوامل عديدة، وليس متوقعا اعتراف دول الجوار بالدولة الوليدة، خصوصا فرنسا، لأسباب عديدة ذات بعد تاريخي وجغرافي، وإدراك فرنسا إمكانية مطالبة كتالونيا الدولة بأراضٍ تابعة لجمهورية فرنسا ضمن اتفاقيات ومعاهدات دولية قديمة. وهناك سبب عدم اكتمال النصاب لعقد استفتاء شعبي قانوني، فقد شارك نحو 46% من سكّان الإقليم، وصوّت ضدّ الانفصال نحو 7% من المشاركين في عملية الاستفتاء، ما يعني أنّ الأغلبية ترفض الانفصال عن إسبانيا. لكنّ هذا لا يبرّئ ممارسات قوّات الأمن التي أرسلتها مدريد لقمع الراغبين بالتصويت، باعتبار العملية برمّتها غير قانونية، وكان على مدريد أن تتعامل بمرونة أكبر، وعدم الإفراط باستخدام القوّة. وقد ذهبت أصوات في أوروبا إلى أبعد من ذلك، وقالت إنّ الديمقراطية الأوروبية لا تعني، بأيّ حالٍ، دعم الحركات ا
لانفصالية في القارّة، وهذا تلميح مبطّن لمباركة استخدام القوّة ضدّ الجماهير في الإقليم المتمرّد.

مخاوف أوروبية

ترفض دول أوروبية عديدة الحركات الانفصالية، جملة وتفصيلا، وليس متوقّعا التعامل معها بقفّازات حريرية، وفي مقدمتها فرنسا وألمانيا وبلجيكيا والنمسا، التي لا ترغب بالتلاعب بسيادتها. وفي البال محنة يوغسلافيا، وتبعات تقسيمها دويلات، فشلت بإيجاد صيغة حضارية في التعامل ما بينها وحلّ الأزمات الداخلية، وبدلا من حلّ المشكلات التاريخية المستعصية، زاد الانشقاق من حدّة الخلاف، وشهد إقليم البلقان حروبًا شعبية دموية، أدّت إلى فواجع ومجازر، لا يزال أثرُها واضحًا وقائمًا.
يحدّ فرنسا مع إسبانيا جنوبًا إقليم البرانس الشرقي، التابع تاريخيًا لإمارة كتالونيا، وحصلت فرنسا على هذه المنطقة، ضمن معاهدة جبال البرانس عام 1659. لذا، فإنّ محاولة تغيير الوضع السياسي قد يتسبّب بمحاولات لإعادة ترسيم الخرائط الجغرافية المعاصرة، والمطالبة باستعادة كتالونيا لاحقًا لإقليم البرانس الشرقي، الأمر الذي تخشاه فرنسا، وترفض مجرّد التفكير فيه، وينطبق الأمر كذلك على دول أوروبية عديدة شهدت تعديلا على حدودها، واقتطعت منها مساحات وأقاليم لصالح إمبراطوريات ودول كبرى، منذ الحروب التي شهدتها القارة في القرون الوسطى، مرورًا بالحربين العالميتين، الأولى والثانية.

الخيارات أمام مدريد
تدرك إسبانيا جيّدًا أهمية إقليم كتالونيا على الصعيد الاقتصادي، حيث يقطنه ما لا يزيد على 7% من سكان إسبانيا، يحقّقون نحو 20% من قيمة الدخل القومي، وينجز الإقليم أرباحًا كبيرة في مجال السياحة لتنوّع مناخه، فهناك المرتفعات الجبلية والمناطق الساحلية، وأهمّ نوادي كرة القدم العالمية، يقصده الملايين من السيّاح طوال السنة. لذا، على مدريد عدم التسرّع في قراراتها والبحث عن حلول بديلة، مثل رفع صلاحيات سلطة الحكم الذاتي، وتحسين موازنة الإقليم ونصيبه من الدخل القومي، وتقديم مزيد من أدوات الحكم الإداري وآلياته، ليبقى الإقليم جزءًا من إسبانيا، علمًا أنّ نسبة كبيرة من سكّان الإقليم ترغب بالبقاء في إطار المنظومة الأوروبية، وهذا أمر سيتعذّر فور إعلان الاستقلال وانفصال كتالونيا عن الحكم المركزي في مدريد.
المظاهرات مستمرة، والإقليم يشهد غضبًا شعبيًا، إثر اعتقال كبار الوطنيين في كتالونيا، المطالبين باستقلال الإقليم، على الرغم من أنّ رئيس وزراء كتالونيا، كارليس بوتغديمون، قد توخّى الحذر، وأجّل إعلان استقلال الإقليم، لكنّه رهن ذلك بتدخّل مدريد لاستعادة السيطرة على الإقليم. لم تلطف هذه الخطوة الأجواء، واستمرّت الحرب الكلامية بين الطرفين، وهدّدت ثريا ساينز، نائب رئيس الوزراء الإسباني بوتشديمون، مطالبة الزعيم الكاتالوني بتعديل موقفه، ومنحته مهلة أيام معدودة للتخلّي عن بيان الاستقلال الذي اعتُمد مع بداية شهر أكتوبر/ تشرين الأول 2017، وإلا فإنّ مدريد ستسارع بتفعيل المادة 155 من الدستور الإسباني. لكنّ بوتشديمون لم يتراجع عن قراره، وبقي مصرًا على استقلال الإقليم.
وفحوى المادة 155 من الدستور الإسباني: حال رفض إقليم ذي حكم ذاتي على القيام بواجباته الدستورية، بما يضرّ بالمصالح الوطنية العامة لإسبانيا، وبعد رفع مذكّرة رئاسية إلى حكومة الإقليم المعنيّ، من دون الحصول على إجابة شافية، يحقّ للحكومة الإسبانية اتخاذ الاجراءات المناسبة بتصويت غالبية أعضاء الكونغرس، لإخضاع الإقليم والدفاع عن المصالح العامة للبلاد.
هدّدت الحكومة الإسبانية قيادة الإقليم مرات بتفعيل هذه المادة، حال عدم الالتزام والمضيّ 
بإعلان الاستقلال عن الدولة الإسبانية. وتؤكد اللهجة الحادّة والإجراءات البوليسية العنيفة التي استخدمتها حكومة ماريانو راخوي القلق الإسباني من انفصال كتالونيا، وبدء مرحلة جديدة من العنف وحالة عدم الاستقرار في البلاد، وقد عايشت إسبانيا فراغًا سياسيًا وأزمة مديونية كبيرة أخيرا، ما تزال آثارها واضحة في أداء الحكومة وفشلها بتحقيق الموازنة السنويّة. لذا، فإنّ انفصال إقليم ثريّ وداعم للموازنة العامة، قادر على إرباك الحكومة الإسبانية على الصعيدين، الاقتصادي والاجتماعي، لذا جاءت ردود الفعل المركزية عنيفة للغاية.
وقد أعلن برلمان إقليم كتالونيا في تصعيد غير مسبوق الاستقلال عن إسبانيا، وسرعان ما منح مجلس الشيوخ الإسباني رئيس الوزراء، ماريانو راخوي، ولاية إدارة الإقليم، ولم يتأخّر تفعيل المادّة 155 ستة أشهر، لتولّي كل السلطات مباشرة في الإقليم المتمرّد، لإخضاع الإقليم للقوانين الإسبانية، وإعادة الأمور إلى سابق عهدها، فقد صادق مجلس الوزراء الإسباني على حلّ برلمان كتالونيا، ودعا إلى عقد انتخابات برلمانية مبكّرة في 12 ديسمبر/ كانون الأول في الإقليم، كما أعفى رئيس الوزراء راخوي رئيس وزراء كتالونيا، كارليس بوتشديمون، وكامل طاقم وزرائه ورئيس جهاز الشرطة في الإقليم، من مناصبهم. ومن المقرّر أن يمثل بوتشديمون أمام الادّعاء الإسباني، لمواجهة تهمة ترويج التمرّد الشعبي ضدّ السلطة المركزية في مدريد، إذ ينص الدستور الإسباني على معاقبة المتورّطين بهذه النشاطات بالسجن مدّة قد تبلغ ثلاثين عامًا.
وعلى الرغم من الرفض والاستياء الذي أبداه قادة كتالونيا، إلا أنّ الحكومة المركزية مصرّة على المضيّ حتّى النهاية وإخضاع الإقليم. بدءًا بتعيين مدير جديد لدائرة الشؤون الداخلية لكتالونيا، هو خوان أنطونيو بوتشيرفر، رئيس السكرتارية التقنية لدى وزارة الخارجية الإسبانية، بديلا عن خواكيم فورن. كما عيّن فيرين لوبيز رئيسًا جديدًا للبوليس الكتالوني بديلا عن جوزيب ترابيرو. في السياق نفسه، طالب جهاز البوليس الكتالوني بعدم التدخّل، وتوخّي الحياد بشأن محاولة انفصال الإقليم عن إسبانيا.

رفض التدخّل والمطالبة بالحوار
إذا فشل القانون في تحقيق الرغبات المرجوّة، يمكن العمل على تغيير بنوده وتعديلها، من دون خرقه ومخالفته. هذا هو الموقف الذي عبّر عنه فرانس تيمرمانس، نائب رئيس المفوضية الأوروبية، وأكّد كذلك على ضرورة اللجوء إلى الحوار، وأنّ أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية قد أسّست لبناء مجتمعات تقدّمية على مبدأ الممارسات الديمقراطية واحترام القانون وحقوق الإنسان، ولا يمكن التساهل مع محاولات العبث بهذه الاستحقاقات المدنية.
وقد أوضح شتيفين زيبرت، المتحدّث باسم المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، أنّ ميركل لن تلعب دور الوسيط في النزاع بين مدريد وبرشلونة، فهذا شأنٌ إسبانيّ داخليّ، لكنّ ألمانيا ستواصل مراقبة تتابع الأحداث عن كثب، وهي ترغب باستقرار إسبانيا والالتزام بالدستور والقانون. أمّا بشأن العنف الذي استخدمته الأجهزة الأمنية الإسبانية تجاه الراغبين بالإدلاء بأصواتهم في استفتاء الاستقلال، فقد تحفّظ زيبرت عن إدانة العنف، مؤكّدًا على ضرورة البحث عن حلول في إطار الدستور الإسباني، والتمسّك بالطرق الديمقراطية.
وقد اتخذ حزب الشعب الأوروبي، بزعامة مانفريد فيبر، موقفًا مناصرًا لوحدة إسبانيا، وحمّل حكومة كتالونيا المسؤولية عن قرارها بتنظيم استفتاء شعبي، من دون اللجوء لحوار مسبق مع الحكومة المركزية. وأضاف إنّ المظاهرات والاعتصامات غير قادرة على أن تحلّ مكان العملية الديمقراطية، ولا بديل عن الحوار بين الطرفين. ولم يتأخّر ردّ التجمّع الديمقراطي 
الاشتراكي، حيث أكّد جوفاني بيتيلا باسمه على ضرورة التمهّل، وعدم اتخاذ قرارات أحادية، في إشارة إلى أنّ إعلان الاستقلال عن مدريد سيزيد الطين بِلّة، وسيؤثّر هذا الواقع على الأمن والاستقرار الأوروبي طوال العقود المقبلة. ولا تحتاج القارّة الأوروبية دولا جديدة، وقيمة التسامح هي السمّة الأساسيّة التي ساهمت بالحفاظ على أوروبا. لكنّ بيتيلا قال إنّ حلّ الأزمة يجب أن يتمّ بصورة مختلفة، بعيدًا عن التصعيد والتهديد والاستخدام المفرط للعنف، كناية عن الإجراءات القمعية والتهديدات التي وجهتها مدريد إلى قادة الحكم الذاتي في الإقليم.
ولا يختلف موقف الليبراليين عن مواقف التجمّعات السياسية الممثلة في البرلمان الأوروبي. فقد قال زعيم الليبرالية الأوروبية، يرخوفسات، إنّ المنظومة الأوروبية تحتاج طريقة جديدة لحلّ أزماتها السياسية، ولا يمكن خرق القوانين المتعارف عليها في أوروبا. وقد كانت نتائج الاستفتاء معروفة مسبقًا، وإعلان الاستقلال يؤكّد انعدام المسؤولية لدى قادة إقليم كتالونيا، كما وجّه فيرخوفستات حديثه إلى القادة في برشلونة، قائلا إنّه ليس عيبًا الاعتراف بالخطأ السياسي، وهذا أفضل بكثير من الإصرار على المضيّ بارتكاب مزيد من الأخطاء القاتلة.
واتخذت الأحزاب المحافظة والصغيرة مواقف مختلفة، مشيرة إلى المعايير الثنائية التي يستخدمها الاتحاد تجاه الدول الأعضاء، ولو أقدمت دولة أوروبية أخرى على استخدام العنف المفرط بهذه الطريقة، لأعلن الاتحاد الأوروبي الحصار الاقتصادي تجاهها.
وقد أعلن رئيس المجلس الأوروبي، دونالد توسك، أنّ وثيقة الاستقلال التي أعلنها البرلمان الكتالوني لا تعني شيئا للاتحاد الأوروبي، وستبقي بروكسل على العلاقات الرسمية مع مدريد فقط ممثّلا شرعيا لكامل الأقاليم الإسبانية. ودعا توسك، في تصريحاته، القادة الإسبان إلى استخدام قوّة القانون، واللجوء إلى الحوار بدلا من قانون القوّة لحلّ الأزمة الداخلية.
ويذكر أنّ الاقتصاد الإسباني تمكّن من احتلال المرتبة الرابعة في الاتحاد الأوروبي، وقال ماريانو راخوي إنّ ذلك بات حقيقة، نتيجة الجهود الكبيرة التي بذلتها إسبانيا في كل أقاليمها خلال السنوات الأربعين الماضية، ولن يهادن أو يتساهل مع أيّة محاولة للتلاعب بالاستقرار السياسي والاقتصادي في البلاد. عدا عن ذلك، تعتبر إسبانيا إحدى الدول المؤسّسة لنادي اليورو، ومن غير الممكن السماح بحالة عدم استقرار قد تؤدّي إلى عمليات انفصال وتشرذم أوروبي، تهدّد، في الوقت نفسه، بانهيار نادي اليورو في العقد المقبل.
59F18F76-C34B-48FB-9E3D-894018597D69
خيري حمدان

كاتب وصحفي فلسطيني يقيم في صوفيا. يكتب بالعربية والبلغارية. صدرت له روايات ودواوين شعرية باللغتين، وحاز جائزة أوروبية في المسرح