ارفع رأسك يا أخي إن كنت مستغنياً عنه

05 يوليو 2014

حشود مصرية تبتهج باتفاقية الجلاء في أكتوبر 1954

+ الخط -

وقف جمال عبد الناصر مزهواً بانتصار الحركة المباركة للضباط الأحرار في 23 يوليو/تموز 1952، يخطب في جماهير الشعب المصري، ويلقي كلمته السحرية التي صارت مثلاً: ارفع رأسك يا أخي، فقد مضى عهد الاستبداد. انفجرت الجماهير بالهتافات الصاخبة، وانصرفت يملأها الشعور بالعزة والفخر والاعتزاز بمصريتهم. استجابت أجهزة السلطة، فوراً، لهذا الشعار الذي أطلقه الزعيم، فامتلأت الشوارع والميادين وكل أماكن التجمع، من نوادٍ ومدارس ومصالح حكومية، وحتى وسائل المواصلات العامة، بلافتات من كل الأحجام والألوان، تحمل هذا الشعار الرائع، وصوراً للمصري رافعاً الرأس، وأصبح عنواناً لدروس المدارس وخطب المساجد (وزارة الأوقاف تصدر منذ نظام يوليو توجيهات بموضوعاتها). المهم أن المصريين صدقوا الشعار. ولكنْ، منهم من كان حصيفاً، فرفع رأسه، وهتف للحركة المباركة وزعيمها، فعدّت الأمور بسلام.
لكن، هناك من كان طيباً، وتصور أن الشعار مطلق، فرفع رأسه مطالباً بأمور أخرى، مثل الحرية والديموقراطية، أو حقوق العمال مثلاً. هنا، طارت على الفور تلك الرؤوس، وكان أشهرها رؤوس خميس والبقري من عمال المحلة. وعندما حاول من اختير "قائداً لثورة الجيش"، وتم تعيينه رئيساً لأول جمهورية في مصر، اللواء أركان حرب محمد نجيب، أن يرفع رأسه، ويصرح بوجهة نظر في نظام الحكم تتعارض مع توجهات الزعيم ومجلس القيادة، تم عزله، واعتقاله في منزل مهجور، لينخفض رأسه تماماً. وللأسف، استمرت محاولات رفع الرؤوس، تطبيقاً لهذا الشعار الذي أطلقه الزعيم "الخالد": ارفع رأسك يا أخي.
استمر قطع كل رأسٍ، ارتفع على غير رغبة النظام، سواء كان من أقصى اليسار أو من أقصى اليمين، من غلاة الشيوعيين إلى غلاة الإسلاميين. ولكن، يشاء القدر أن لا تنتهي حقبة الزعيم الذي أطلق ذلك الشعار، وحدّد معايير تطبيقه العجيبة، إلا وقد شرب هو نفسه من الكأس نفسها، عندما رفع رأسه متحدياً القوى المهيمنة على العالم، فطار رأسه، ولحقت بمصر هزيمة 5 يونيو/حزيران 1967، والتي ما زالت آثارها عالقة بنا، وإن كنا قد أزلنا بعضها عسكرياً، بانتصار أكتوبر/تشرين الأول 1973، الذي أعاد للمقاتل المصري، في ذلك الوقت، إحساسه بالكرامة. ولكن، شعار ارفع رأسك توارى، وظهرت شعارات أخرى، لعل أشهرها "قواتنا المسلحة درع وسيف"، و"حرب أكتوبر آخر الحروب" و"السادات بطل الحرب والسلام". ثم في عهد مبارك. "الضربة الجوية فتحت باب الحرية" و"احنا اخترناك" و"دار الزمن دورته"، حتى وصلنا إلى 25 يناير/كانون الثاني 2011. وانطلقت ثورة الشعب المصري، في إرهاصاتها الأولى، تحمل، في البداية، شعاراً بسيطاً واضحاً تلقائياً: عيش، حرية، عدالة اجتماعية، ثم تطور مع الزخم الثوري والتحاق مزيد من الجماهير والقوى بالطليعة الأولى من الشباب إلى "الشعب يريد إسقاط النظام" وشعار جانبي له طابع شخصي، موجه إلى رأس النظام هو ارحل، تمحورت حوله كل أدبيات الميدان في ذلك الوقت، حتى بدا وكأنه الهدف الوحيد لتلك الثورة؟
لذلك، عندما رحل عمت الفرحة الغامرة الجميع، وانطلقت صرخات الفرح، وانصرف الناس سعداء، وفي الصباح نظفوا الميدان. وفي وسط كل تلك الأحداث السريعة والمتراكمة والمتداخلة، ظهر هتافان وسط الجماهير غير معلومي المصدر على وجه الدقة، يقول الأول "الجيش والشعب يد واحدة" (تناولناه في مقال سابق)، والثاني (ارفع رأسك فوق، أنت مصري)، وهو قريب الشبه من "ارفع رأسك فقد مضى عهد الاستبداد"

هنا، شعرت بالقلق، فكل مرة انطلق فيها شعار رفع الرأس، انتهى الأمر بقطع الرؤوس، وحدث ما توجسنا منه. رفع المصريون الرأس، فانقطعت الرؤوس في شارع محمد محمود وعند ماسبيرو (مبنى التلفزيون) ومقر مجلس الوزراء وفي العباسية. رفع المصريون الرؤوس، فقطعت في السويس والإسكندرية. ومرة أخرى، يدور الزمن دورته الحتمية، وننتقل إلى مشهد آخر، هو مشهد عملية سياسية، تصور بعضهم أنها ستؤدي إلى أن يرفع المصريون كلهم رؤوسهم!  وجاء أول الغيث، مجلس شعب منتخب من خارج صندوق يوليو، ومع كل تحفظاتنا على طبيعة تكوينه، إلا أنه كان بدايةً لتجربة ديموقراطية جديدة تماماً على الشعب المصري، تقبل الخطأ بطبيعة الأحوال. لكن، ما كاد ذلك المجلس يحاول، فقط مجرد محاولة لرفع الرأس، حتى كانت المبادرة بقطعه، وأغلقت أبواب المجلس بالجنازير الحديدية. ثم جاء رئيس منتخب، أيضاً، من خارج صندوق يوليو، وفي هذه المرة، تم وضع سقفٍ مسبقٍ، لا يجب عليه أن يتجاوزه برأسه عندما يرتفع، هو الإعلان الدستوري الشهير الذي أصدره المجلس العسكري الحاكم، برئاسة المشير حسين طنطاوي، قبل انتهاء الانتخابات الرئاسية والشهير بالإعلان "المكبل".
 جاء الرئيس المنتخب، وتم تسليمه المنصب، من دون السلطة، ومعه الإعلان المكبل!، ولكن، يبدو أن الرئيس لم يستوعب الدروس السابقة، وحاول تطبيق الشعارين، القديم والجديد، وألغى الإعلان "المكبل"، وكسر سقف رفع الرأس المسموح به، فكان القرار حاسماً .. قطع الرأس! وقد حدث، وإن احتاج الأمر بعض الوقت والترتيبات، وأوضح ذلك القائد العام للقوات المسلحة وزير الدفاع السابق، في أحد لقاءاته، في حملته الانتخابية للرئاسة، عندما قال إنه أبلغ مسؤولاً أميركياً كبيراً، عندما استوضحه الموقف في مارس/آذار 2013، أن الأمر قد انتهى بالنسبة للرئيس، أي أن القرار كان قد تم اتخاذه، وقضي الأمر! وكان لا بد من وضع حد لهذا الشعار الذي تسبب في أن تطير رؤوس كثيرة على مدى سنوات عديدة. لذلك، عندما حانت ساعة الحسم بالنسبة "للرأس الأخير"، ظهر خطاب جديد تماماً، جاء في بيان القوات المسلحة في أول يوليو/تموز 2013، قبل 48 ساعة من تنفيذ القرار، ونصه:
"لقد عانى هذا الشعب الكريم، ولم يجد من يرفق به، أو يحنو عليه، وهو ما يلقي بعبء أخلاقي ونفسي على القوات المسلحة التي تجد لزاماً أن يتوقف الجميع عن أي شيء بخلاف احتضان هذا الشعب الأبي الذي برهن على استعداده لتحقيق المستحيل، إذا شعر بالإخلاص والتفاني من أجله".
لم يأتِ أي ذكر لرفع الرأس، لأن عهد الاستبداد قد مضى، أو لأنك مصري. ولكن، أنت شعب تعاني، ولم تجد من يرفق بك، أو يحنو عليك، ونحن سنقدم لك الحضن الآمن. وبالطبع، لن تكون في حاجة لرفع رأسك بعد اليوم وتعرضه للقطع.
مضى عام، فماذا جرى؟ هناك من هرع على الفور إلى "الحضن"، يبحث عن الأمان، وما زال يبحث عنه!، وهناك من بادر، على الفور، برفع الرؤوس، فقطعت الرؤوس! ينطبق هذا على أجيال من أبناء هذا الوطن، عاشت في أجواء يوليو 1952 ويونيو 1967 وأكتوبر 1973 وكامب ديفيد 1978 ومبارك 30 عاماً. لكن، المثير والمبهر ظهور جيل جديد، فتية، ولأسباب غير واضحة تماماً، مختلفين لا ينتمون لأيٍّ من تلك الحقب، فلا هم أبناء يوليو ولا يونيو ولا أكتوبر ولا كامب ديفيد ولا حتى بابا مبارك وماما سوزان. يتطلعون إلى المستقبل. مستقبلهم في وطن حر حديث، يحقق لهم، بكرامة، العيش والحرية والعدالة الاجتماعية. لن يعرضوا رؤوسهم للقطع غدراً، ولن يلقوا بأنفسهم في أحضانٍ خادعة، لكنهم سينتزعون حقهم. فقط يحتاجون بعض الوقت، وسينتصرون حتماً، ساعتها سنرفع جميعاً رؤوسنا، من دون خوف عليها.

2FABA6BB-F989-4199-859B-0E524E7841C7
عادل سليمان

كاتب وباحث أكاديمي مصري في الشؤون الاستراتيچية والنظم العسكرية. لواء ركن متقاعد، رئيس منتدى الحوار الاستراتيجى لدراسات الدفاع والعلاقات المدنية - العسكرية.