اختناق الإنسانية العربية في عصر ما بعد فلويد

اختناق الإنسانية العربية في عصر ما بعد فلويد

13 يونيو 2020
+ الخط -
ما زلت أجد صعوبة كبيرة في فهم توجهات بعض البشر الذين يبتهجون لسحق أبرياء لا تربطهم بهم علاقة، ولا يعرفون عنهم شيئاً، بينما يؤلهون زعماء لا يخفى ما يرتكبون من عظائم. ربما أفهم أن يمارس بعضهم القسوة ضد خصوم مباشرين، أو يبتهجون بمعاناة عدو لهم ضده ثأر (وهو مع ذلك شعور بغيض). أما أن يحتفي بعضهم بعذاب الأبرياء بغير خلفية من عداوة، فهذا ما يستعصي على الفهم.
أفهم جيداً العكس: أن يتعاطف شخصٌ مع ضحايا الظلم والقسوة، من دون أن تكون له بهم معرفة أو علاقة، فطبيعة البشر مجبولة على التعاطف مع ضحايا القسوة، حتى لو كان الضحية من الحيوان الأعجم. إلا أن الحقد والتشفي ضد مخلوقاتٍ أخرى بدون أي دافع "إنساني"، فهذا هو اللغز. عليه، يصعب مثلاً أن يُفهم حماس معظم الأنظمة العربية لدعم النظام الصيني في قمعه مسلمي الإيغور لمجرّد الهوية، وقيامه بإجراءاتٍ لا إنسانية، ولا مبرّر لها، تنتهك حرياتهم الدينية والشخصية، تشمل المنع من الصلاة والصوم، وإسكان غرباء غير مسلمين غصباً في كل بيت، وحبس أكثر من مليون ونصف المليون في معسكرات اعتقال. ولم يكتف بعض الأنظمة بالتصويت لصالح الصين في مجلس حقوق الإنسان، بل وصف الإيغور بالجملة بأنهم إرهابيون. بل بلغ الأمر ببعض "رجال الدين" في عدد من هذه الدول "الفتوى" بجواز ذلك، وأيضاً الافتراء على مسلمي الروهينغيا الذين شرّدتهم حكومة ميانمار.
ونعرف عدداً (أكبر من اللازم، للأسف) من المثقفين العرب، وحتى الشخصيات الإسلامية، كانوا أصدقاء، ولكنهم فجعونا بالحماس لمذابح دكتاتور سورية في حق شعبه. ولعل المستغرب أن
 بعض هؤلاء جمعوا بين الحسنيين، فكانوا أيضاً متحمّسين لصدام حسين ومذابحه في حق شعبه، على الرغم من خلاف النظامين! وأذكر أن أحد الأصدقاء عرّفني إلكترونياً على صحافي شاب، وجدت في كتاباته كثيراً من الإبداع والذكاء، إلا أن الصديق حذّرني من أن صاحبنا من المغرمين ببشار الأسد. وعندما كتبت معلقاً أحذر الشاب، وذلك في أول أيام الثورة السورية، بأن الأسد لم يعد له مستقبل، كان ردّه : "اللهم احفظ حبيب الملايين الزاهد العابد بشار من كل شر." أتمنى (حين يقرأ هذا المقال) أن يكون تاب إلى الله من هذا التعلق المرضي بقاتلٍ مجرمٍ دمر بلده، وأفنى شعبه بأسوأ مما يفعل الطاعون، إلا أن يعتقد أن الشعب السوري يستحق هذا العقاب السماوي، لأنه لا يشاركه في حب "الزاهد العابد" إياه.
كثيرون ممن يقعون في مثل هذه الآثام يعتذرون بأن ذنوب المجرمين، مهما عظمت، مغفورة، لأنه يقارعون قوى الاستعمار أو يدعمون القضية الفلسطينية. إلا أن هذا التعلق الباثولوجي بمرتكبي الكبائر تطور الآن عند بعض الأنظمة، وطائفةٍ من شعوبها، فشمل التوله بالصهاينة، والتصفيق لفظائعهم ضد الفلسطينيين! وهذه لعمري حالةٌ أكثر مدعاةً للعجب والشفقة من الحالة الغريبة التي أوردناها من التغنّي بجرائم تقع في حق غرباء لا يعرفهم المرء. فهنا، نجد التغنّي بجرائم في حق الأقرباء في المكان واللغة والهوية والدين، يرتكبها غرباء في كل هذه الروابط (عوض التدثّر بصمتهم القديم وإدارة الظهر للقضية وأهلها، فلم يطالبهم أحد بأكثر من ذلك) يستعصي على كل فهم.
ولعله ليس عجباً أن الأنظمة الإجرامية التي تذكي مثل هذه الكراهية المدبرة تفيض كراهيةً ضد شعوبها قبل كل غريب، حيث أكثر ضحاياها من مثقفي بلادهم وعلمائها ومناضليها وناشطي حقوق الإنسان، وكل شخصٍ نزيهٍ أبيّ. هم يريدون أن يغيب الشرفاء من على وجه البسيطة، حتى يبقى العبيد والمنافقون من أمثالهم. ولو بعث عرب الماضي القريب والبعيد (ممن يبدو أنهم انقرضوا) لهبّوا معاً في ثورة كبرى ضد ما تتعرّض له الحرائر في سجون بعض الأنظمة مما لا يقبله شرف ولا نخوة.
ولعل ثالثة الأثافي هي ما فاض من بعض المصادر إياها من هجر القول تجاه حدث الساعة المزلزل: الاغتيال المتلفز لجورج فلويد. صحيحٌ أن غالبية العرب التحقوا بالتيار الإنساني العالمي الذي هبّ للتضامن مع السود في أميركا ضد العنصرية المتجذّرة في النظام العدلي الأميركي. ولكن قطاعاً أكبر من اللازم استخدم الأزمة فرصةً لمهاجمة الديمقراطية الأميركية، والادعاء أنها زائفة. هذا مع أن غالب هؤلاء من أنصار الاستبداد في دولهم وغيرها، وليسوا ممن يقدّم بديلاً ديمقراطياً أفضل. وأسوأ ذلك ما اجترحه قطاع آخر، أقل حجماً، ويعمل، كما يظهر من هوية المنخرطين فيه، تحت إمرة جهاتٍ سعوديةٍ أو مصريةٍ وحلفائهما، ذهب مذهباً بعيداً في التجني على الضحية فلويد، خصوصا في إطار مهاجمة ناشطين سياسيين عرب، مثل اليمنية توكل كرمان، فقد أطلق هؤلاء فرية أن فلويد هو في الحقيقة ممثل إباحي! وفي سخرية سوداء تعبر عن لا إنسانيةٍ متجذّرة، استخدم بعضهم صوراً ساخرة تصف كرمان بأنها "خطيبة فلويد" (في إشارة مفرطة في الإفلاس الأخلاقي إلى خطيبة الراحل جمال خاشقجي الذي ذبح على يد رجال محمد بن سلمان في قنصلية بلاده في إسطنبول). ويلاحظ أن هذه الحملة شاركت فيها حسابات من إسرائيل، ما يعتبر تدشيناً للتحالف الإجرامي الجديد المعادي للعرب وللإنسانية.
هنا يأتي مصدر الاستغراب لوجود هذه الأقلية الكبيرة من العرب التي تتعامل مع حدثٍ إنسانيٍّ 
بهذا الحجم، إنما بصورةٍ أداتية، بل انتهازية لنقد يجير لصالح الاستبداد، وإفلاس أخلاقي أشد يتجرّد من كل إنسانية، حتى حين تكون الإنسانية انتهازية. هذا مع العلم أن الحضارة العربية قامت على النخوة والنجدة والشعور الإنساني حتى قبل الإسلام. كان العربي يعتزّ بكرامته وحريته، ويردّد مع عمرو بن كلثوم: "إذا ما الملك سام الناس خسفاً/ أبينا أن نقر الذلّ فينا"؛ وكانت نصرة المظلوم، وإجارة الضعيف من أهم القيم، حتى أن مسلمين كثيرين، ومنهم رسولنا الكريم نفسه، كانوا يعيشون في مكة في "جوار" أو حماية بعض سُراة قريش، فلا يجرؤ شخصٌ على أن يمسّهم. وكان الرسول أيضاً أحد أطراف حلف الفضول الذي تعهد المتعاقدون فيه بنصرة المظلوم ضد الأقوياء من أهل مكة أو غيرهم. وقد عزّز الإسلام هذه القيم، حيث جعل قتل الإنسان البريء كقتل الناس جميعاً، وأقرّ قيم الجوار، واحترام العهود والمواثيق، بل وجعل القسوة على الحيوان من أبواب جهنم. وعلى الرغم من الفترات والأحداث المظلمة التي مرّت في التاريخ الإسلامي، إلا أن فترة ازدهار تلك الحضارة كانت في معظمها حقبة ازدهار إنساني تعدّدي، شاركت فيها شعوبٌ متعدّدة، ونتجت عنها أدبياتٌ أثرت التراث الإنساني.
وقد أكدت فترات النهضة العربية الإسلامية الحديثة، التي بلغت ذروتها في الربيع العربي الذي وحد العرب، وأكسبهم احترام العالم، أن هذا التراث لم يمت، فالثورات العربية ألهمت العالم، واقتدت بها حركاتٌ مثل حركة "احتلوا وول ستريت"، ولا تخفى آثار تلك التجربة على الانتفاضة الأميركية الحالية التي تحولت بسرعة إلى انتفاضةٍ عالميةٍ، ربما تكون الأهم في تاريخ أميركا والغرب، لأنها أقوى حركة في التاريخ القريب ضد تراث التمييز الاستعماري ضد الأفارقة، فلم يتوجه الغضب الذي انفجر حصراً ضد عصر الرقّ الأميركي وتراثه وذيوله وتجلياته، ومحاولات إحيائه، بل استهدف معاقل التراث الاستعماري في بريطانيا وبلجيكا وفرنسا وغيرها. وكنت قد قلت في تغريدةٍ حديثة إن الرئيس ترامب طفق يشن حروب التاريخ الأميركي بالمقلوب، فهو يخوض الحرب الأهلية كجنرال كونفيدرالي، والثورة الأميركية كموالٍ لملك بريطانيا، إلا أن غالبية الأميركيين يتجهون الآن في الطريق الصحيح.
وفي ظل أم الانتفاضات هذه، والعالم كله ينتفض، ويتضامن، ومعه عربٌ كثيرون، نعيد سؤالنا: ما السبب في أن غالبية الأنظمة العربية والاستبداد وأنصارها ينفردون بالاصطفاف مع أعداء الإنسانية، أو يستغلون الأزمة انتهازياً؟ وأهم من ذلك، ما السبب في وجود تيارات مهمة، تضم قطاعاً من "المثقفين" تؤيد ممارسات أنظمة وجماعات وشخصيات تفتقر إلى أدنى مقومات الإنسانية؟
كما هو الحال في مثل هذه الأمور، بنى هؤلاء لأنفسهم جُدراً من الروايات المختلقة، فصلتهم تماماً وأعمت أبصارهم عن عالم البشر. وفي ظاهر الأمر، فإن الآخرين عند هؤلاء هم من ليسوا 
بشراً، فمن المضحكات المبكيات ما فاض به الإعلام المصري من أن الإخوان المسلمين هم وراء الانتفاضة الأميركية ضد العنصرية. ويقوم هذا بالطبع على دعايةٍ روجها هذا الإعلام وحلفاؤه إن "الإخوان" كائنات فضائية، أو نفر من الجن، وليسوا أولاً وأخيراً مواطنين مصريين، فتكفي إطلاق تهمة إخواني على أي شخصٍ لتجريده من كل حق، وإخراجه خارج إطار البشرية. وعليه، أصبح حتى بعض غير المسلمين "يُتهمون" بالإخوانية، فتكون الإجابة النفي، كأن الانتماء الأيديولوجي أو السياسي جريمة. ولكن في الحقيقة، هذا الهراء يمكن اعتباره وساماً في صدر "الإخوان" لو صح (وهو غير صحيح)، لأن الانتفاضة الإنسانية في الولايات المتحدة والعالم للتضامن مع ضحايا العنصرية فخر لكل مشارك فيها. وفي المقابل، فإن من يروّج هذا الإسفاف يستخفّ بعقول الناس، ولا يخدع سوى نفسه، حين يتخيل أنه يخدع أحداً بمثل هذا الهراء.
الإنسانية في بلاد العروبة تصرخ أيضاً: "لا أستطيع التنفس!". وقد آن الوقت ليرفع المجرمون ركبتهم عن عنقها، قبل أن يجدوا أنفسهم قريباً في حالة صراخٍ مماثل، وما من صريخٍ لهم ولا هم ينقذون.
822FB209-C508-489D-879A-A08F3BBC562D
822FB209-C508-489D-879A-A08F3BBC562D
عبد الوهاب الأفندي

أكاديمي سوداني، أستاذ العلوم السياسية في معهد الدوحة للدراسات العليا. عمل بتدريس العلوم السياسية في بريطانيا منذ 1997، وكان قد عمل في الصحافة والدبلوماسية والطيران في السودان وبريطانيا. أحدث مؤلفاته "كوابيس الإبادة.. سرديات الخوف ومنطق العنف الشامل"

عبد الوهاب الأفندي