احتفاءً بمفردة ضمير

19 يونيو 2014

عمل لـ "فل كاردمون"

+ الخط -
لا يجادل أحد، اليوم، في أهمية التحولات السياسية التي شملت بلداناً عربيةً عديدة سنة 2011. صحيح أن جوانب من تداعياتها في الراهن العربي تعيدنا إلى جوانب من المواقف السياسية التي صاحبت عمليات بروزها وتطورها. ولأننا نتعامل مع أحداث التاريخ الكبرى، في ضوء الخيارات السياسية والتاريخية، التي نعتقد أنها أكثر قرباً ممّا جرى ويجري في مجتمعنا، فقد ثَمَّنَا الكثير من أوجه ما حصل هنا وهناك، على الرغم من كل ما لحق مجتمعاتنا من أضرار وتراجعات. إن مكاسب ما حصل تفوق الأعطاب الجديدة، إنها تتجاوز استبدادية الأنظمة، التي كانت جاثمة على مجتمعاتنا بغطرسة وقوة كبيرتين.
أريد أن أتوقف في هذه المقالة، أمام مفردةٍ أنعشت، بحضورها المكثّف في الجدل الدستوري، الذي واكب مشروع التغيير في أغلب المجتمعات العربية، خطابات مشروع النهضة العربية. يتعلق الأمر، هنا، بمفردة ضمير التي ترد أحياناً بصيغة مركّبة، حرية الضمير، فقد فتحت المفردة المذكورة الخطابات السياسية والقانونية العربية، على أفق مرتبط بجملة من المفاهيم التي تدرج ضمن الجيل الثالث من أدبيات النهضة والإصلاح في فكرنا السياسي المعاصر. عندما نراجع جوانب من السِّجالات السياسية التي وردت فيها المفردة، في المشهد السياسي التونسي والمغربي والمصري، زمن إعادة كتابة دساتير هذه البلدان في السنوات الماضية، وذلك بطلب من سلطة التغيير التي ملأت الساحات العمومية، مناديةً بضرورة إعداد قواعد قانونية جديدة، لتركيب شرعيةٍ مواكبةٍ للإصلاح المطلوب، نتبيّن الأفق الجديد الذي انفتح في الفكر السياسي العربي، وهو أفق يروم رسم المعالم الكبرى للدولة الجديدة المأمولة في مجتمعاتنا.
تتيح لنا الكلمة، ونحن نتابع سياقات تبلورها واستخدامها، سواء في السياق الذي ترد فيه اليوم، أو في أصولها الأولى في الفكر السياسي الحديث، تَذَكُّر مساهمات مارتن لوثر وكالفن، في باب الإصلاح الديني في عصر النهضة الأوروبية. حيث كان يشير تداول المفردة في المجال الثيولوجي، إلى فضيلة الاعتراف وما يترتب عنها من الغفران. إذ تحيل أيضاً، عندما تجمع مع مفردة الحرية، إلى مبدأ احترام الآراء والقناعات الدينية للمواطنين. كما تذكّرنا بأشكال التمجيد التي تجلّت بها في نصوص جان جاك روسو، فنقترب من الروح الفردية ومكاسبها، خصوصاً عندما يربطها روسو بالوجدان والأخلاق والتربية وحسن التنشئة الاجتماعية، كما يتجلى ذلك بوضوح في الفصل الرابع من كتابه: "إميل".

لا نريد من التذكير المختصر بالمرجعية الفكرية للمفردة، نسخ الدلالة العامة لها، بل نحيل إليها في إشاراتٍ مختزلةٍ لتعيين معانيها المرتبطة بسياقات تشكلها في الفكر والتاريخ الحديث. أما سياق انتقالها وتداولها، اليوم، في ثقافتنا السياسية والقانونية، فتحكمه شروط تحتّم علينا تلوين الكلمة بالدلالة المطابقة لأسئلة أوضاعنا السياسية في الراهن العربي. نقرأ في حضور مفردة ضمير في السجالات الدستورية التونسية والعربية، قفزة نوعية في باب الحديث عن الحريات العمومية. فهي تضعنا أمام حريةٍ أجمعت إعلانات الحقوق الكونية على أهميتها، بحكم أنها تركب ما يسمح بتجاوز التمييز بين المواطنين على أساس الدين والمعتقد، وذلك اعتماداً على مبدأ المواطَنة الذي يقرُّ بالمساواة. ولا بد من التوضيح هنا أن التلويح بمفردة الضمير وحريته، يتم داخل مجتمعاتنا في سياق تاريخي، مرتبط بتحولات جارفةٍ في القيم والثقافات. وإذا كنا نعرف أن المفردة تزكّي خياراً فلسفيّاً معيّناً، في النظر إلى الإنسان والتاريخ والمجال السياسي، سندرك أهمية الاستعانة بها في سياق التحولات الجارية في المجتمعات العربية.
تتمثل القيمة الكبرى لمفهوم الضمير في إقراره بحرية الاختيار الشخصي في المجال الديني، الأمر الذي يرفع سطوة الخيارات الجمعية المتوارثة. إنه يمكّن الفرد من حق السيادة على نفسه ومعتقداته، إضافة إلى أن المفهوم يَسْتَبعد بحضوره المخاوف المرتبطة بموضوع انتهاك حرية المعتقد، أو التضييق على الاجتهاد والتأويل في مجال العقائد الدينية. إننا أمام مفردة تقرّبنا من الأفق الذي حَدّدته مكاسب الدولة المدنية في الأزمنة الحديثة، وحدّده التعقّل الإنساني للعقائد والعبادات.
لا يتعلق الأمر في المفردة التي نحاول تعيين جوانب من دلالتها، في مجرد الدفاع عن حرية العقيدة، أهميتها تتجاوز ذلك، فهي تشرِّع في العمق الاختلاف بين الناس في مجال العقائد، وتحاول رسم حدود بين الخاص الذاتي والعام المشترك بين الفرد والموروث. إنها مفردة تفتح الطريق أمام متعة التعايش من دون إكراه، وهي مقيّدة بمبدأ ضمان الحريات، وبشروط المواطنة. قد تكون هناك خلافات محددة في تأويل الفصل السادس الذي استوعب هذه المفردة في الدستور التونسي، لكن ما لا خلاف فيه أن حرية الضمير برزت في سياق تحولات فعلية في حاضرنا، وينبغي أن نعمل بوعي على ترسيخها، بحكم أنها تروم في العمق الوقوف أمام مشروع الدولة الدينية.
ينبغي أن نكون على بيّنةٍ، هنا، من أن مفردة ضمير، بمختلف إيحاءاتها وسياقاتها في التاريخ، لا تعادي الدين، فقد تبلورت بنداً من بنود الحريات الأساسية في الأنظمة الديمقراطية، قصد مواجهة الدولة الدينية، والحرص على مدنية للدولة. نتأكد من ذلك، عندما نتبيّن أن الفصل السادس الذي استوعبها في الدستور التونسي أشار إليها بما يرادفها، حيث وردت لتكون عنواناً لحرية الفكر والوجدان والدين، وضمن هذا الأفق، يحق لنا اليوم الاحتفاء بها وبمرادفاتها.
C0DB4251-3777-48D1-B7F6-C33C00C7DAEB
كمال عبد اللطيف

محاضر في جامعات ومؤسسات بحث في المغرب وخارجه، عضو في لجان جوائز ثقافية في مراكز بحث وجامعات عربية. يساهم في الكتابة والتدريس الجامعي منذ السبعينيات، من مؤلفاته "درس العروي، في الدفاع عن الحداثة والتاريخ" و"الثورات العربية، تحديات جديدة ومعارك مرتقبة".