احتجاجات موسكو: محاكاة لتظاهرات 2011 ورواية "الثورات الملونة"

احتجاجات موسكو: محاكاة لتظاهرات 2011 ورواية "الثورات الملونة"

08 اغسطس 2019
اعتقلت الشرطة مئات المعارضين (Getty)
+ الخط -
الأوضاع السياسية في موسكو على صفيح ساخن على عكس الطقس الذي كان باهتاً طوال الصيف. ويبدو أن معارضي سياسات الكرملين مصرون على الاستمرار في أضخم تظاهرات سياسية منذ شتاء 2011 ـ 2012 رغم استخدام الأجهزة الأمنية القوة المفرطة لفض التظاهرات، وشنّ حملة اعتقالات بحق الداعين للاحتجاجات وقادة المعارضة، ما قد يجبر النخب الحاكمة على إجراء تغييرات في النظام السياسي الحالي لتجنب الأسوأ. ومع إدراك "المعارضة غير المدجنة" أهمية انتهاز فرصة تراجع شعبية حزب "روسيا الموحدة" الحاكم، والتذمر الشعبي على خلفية تراجع الدخل الحقيقي للمواطنين المستمر منذ خمس سنين، وتباطؤ النمو الاقتصادي، ورفع السن التقاعدية، ركزت المعارضة الليبرالية على انتخابات مجلس النواب المحلي في العاصمة موسكو في 8 سبتمبر/أيلول المقبل، ودفعت بأفضل مرشحيها إلى المعركة. لكن جميع الترشيحات رُفضت، ما دفع المعارضة إلى القول إن رفض مرشحيها ناجم عن خوف السلطات من اكتشاف شبكات فساد واختلاس داخل إدارة هذه المدينة التي تصل موازنتها السنوية إلى 38 مليار يورو. وفي المقابل، وفي سابقة أثارت حملة انتقادات دولية ومحلية واسعة، قمعت قوى الأمن، والحرس الوطني التظاهرات بوحشية أظهرتها مقاطع الفيديو المسربة، واعتقلت مئات المشاركين في الاحتجاجات "غير المرخصة"، ووجّهت لبعضهم تهما تصل عقوبتها إلى السجن 15 سنة بعد توجيه اتهامات لهم بـ"أعمال شغب جماعية"، وزجت بمعظم قادة المعارضة في السجن.

قمع التظاهرات العنيف واعتقال المعارض البارز أليكسي نافالني في تظاهرات 20 يوليو/تموز الماضي، لم يفلح في إنهاء الاحتجاجات التي ازدادت في 27 من الشهر الماضي و3 أغسطس/آب الحالي. وذهبت السلطات إلى حدّ توجيه اتهامات بـ"تبييض الأموال" بحق "صندوق مكافحة الفساد" الذي يديره نافالني، ويقف خلف كثير من التحقيقات بشأن الحياة المرفهة والفساد في أوساط النخب الروسية، كان آخرها اتهام مساعدة رئيس بلدية موسكو ناتاليا سرغيونينا باختلاس مليارات الروبلات من الأموال العامة في إدارة رصيد الإسكان الخاص بالبلدية.

ومع أن برلمان موسكو ليس مؤثراً في صناعة القرار في روسيا، يبدو أن الكرملين اتخذ قراراً بالمواجهة الخشنة وعدم السماح للمعارضين بالترشح لأسباب عدة منها؛ الخشية من تكرار تجربة الانتخابات المحلية في المقاطعات والأقاليم العام الماضي، عندما تمكن أكثر من مئتين من مرشحي المعارضة من الفوز بمقاعد في البرلمانات المحلية. كما تعرض مرشحو السلطة لقيادة ثلاثة أقاليم مهمة لخسارة قاسية أمام مرشحين معارضين في الانتخابات ذاتها. ومع عدم إمكانية التوصل إلى حل وسط، فإما أن يسمح للمرشحين بخوض الانتخابات أو يمنعوا من ذلك، تتراجع إمكانية المناورة لدى صنّاع القرار في الكرملين. ويبدو أن الخيار كان واضحاً بالمحافظة على صورة الدولة القوية وعدم تقديم أي تنازلات، ولو كانت محدودة للمعارضين لأنها يمكن أن تفتح على تنازلات إضافية قد تربك النظام القائم، الذي يعيش أصلاً أزمة تتجسد في كيفية إدارة البلاد بعد عام 2024، حين تنتهي ولاية الرئيس فلاديمير بوتين الأخيرة بحسب الدستور الحالي.

واضح أن مهندسي السياسة الداخلية في الكرملين قلقون من إمكانية بروز وجوه سياسية جديدة قبل عامين من الانتخابات البرلمانية العامة المقررة عام 2021، المهمة جداً لهندسة الأوضاع بعد عام 2024. ففي ظلّ أزمة إيجاد خليفة لرجل الكرملين القوي، يجري البحث، حسب خبراء، في احتمالات عدة، منها تشكيل مجلس رئاسي حاكم بقيادة بوتين، أو التحول لدولة برلمانية، أو استمرار حكم بوتين في ظل دولة موحدة مع بيلاروسيا (روسيا البيضاء)، ما يلزمه ضمان أغلبية الثلثين في مجلس الدوما (البرلمان) المقبل لإقرار التعديلات الدستورية الضرورية.

وتكمن خطورة التظاهرات الحالية بالنسبة للكرملين في طابعها السياسي، ما يذكر بأحداث ميدان بولوتنايا في موسكو نهاية 2011 وبداية 2012، حين تجمّع عشرات الآلاف احتجاجاً على "عمليات تزوير واسعة النطاق" في الانتخابات البرلمانية في حينه، ورفضاً لخطط بوتين للعودة إلى الرئاسة مجدداً. فالسلطات لم تقمع في السنتين الأخيرتين احتجاجات في موسكو والمناطق الأخرى ضد تردي الخدمات العامة، وتلوث البيئة، أو حتى ضد قوانين رفع السن التقاعدية، وفساد بعض المسؤولين المحليين. وتخشى النخب الحاكمة من ارتفاع وتيرة الاحتجاجات وتحولها إلى الطابع السياسي مع وصول إحصاءات رسمية تفيد بوصول جيش العاطلين من العمل إلى 21 مليوناً، وتوقعات بعدم تجاوز النمو الاقتصادي في العام الحالي واحداً في المائة، في ظل استمرار العقوبات الاقتصادية الغربية المفروضة على روسيا منذ ضمّ شبه جزيرة القرم الأوكرانية عام 2014 والأزمة في أوكرانيا عموماً، وتشديد العقوبات بعد حادثة تسميم الضابط السابق في الاستخبارات سيرغي سكريبال وابنته يوليا في بريطانيا في مارس/آذار 2018. ويرى خبراء أن مأزق الكرملين يكمن في أنه بات غير قادر على القيام بـ"مغامرات خارجية للهروب إلى الأمام" مثل افتعال أزمة في بحر آزوف مع أوكرانيا، أو مع بلدان البلطيق، نظراً لأن الروس باتوا مقتنعين أن أي خطوة من هذا القبيل ستجر عقوبات جديدة، تتسبب في زيادة الفقر وضعف الاقتصاد، ولذلك فمعظمهم لن يدعم الكرملين كما حصل في قضية القرم ربيع 2014.
الاستخدام المفرط للقوة ضد المتظاهرين من قبل شرطة مكافحة الشغب ضد محتجين يمارسون حقاً يضمنه الدستور، استدعى شجباً وتنديداً دولياً واسعاً، وظّفته موسكو مباشرة عبر الإشارة إلى أصابع أجنبية لدعم المحتجين ونشر الفوضى. واتهمت المتحدثة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا، السفارة الأميركية في موسكو بالمشاركة في أحداث 3 أغسطس، عبر نشر مسار التجمع "خطوة بخطوة، دقيقة بدقيقة"، وقالت إن وكالة الأنباء الألمانية "دويتشه فيله وجّهت نداء إلى سكان موسكو بالخروج والمشاركة بالتجمع غير المرخص".

ويرى مراقبون أن من الطبيعي أن توجه موسكو الاتهامات لأطراف غربية بالتدخل في سياستها الداخلية والتحريض على "ثورات ملونة"، لكن بعض الخبراء يوضح أن تصرفات القوى الأمنية يمكن أن تتسبب في انفلات الأوضاع وخروجها عن السيطرة وفق سيناريوهات الثورات الملونة في بلدان الاتحاد السوفييتي السابق. فلجوء السلطات الروسية إلى القمع الإضافي في التعامل مع الاحتجاجات، وتخليها عن ضبط النفس يمكن أن يتسبب في زيادة الاحتجاجات ومشاركة مزيد من الشباب وأبناء الطبقة الوسطى في ظل انسداد الأفق السياسي للتغيير، وتراجع مستوى المعيشة. ويشير خبراء إلى أن أخطاء قيادات جورجيا وأوكرانيا وقتل متظاهرين في الميادين تسببت في ثورة الورود 2003 في تبليسي والثورة البرتقالية 2004 ولاحقاً في 2013 و2014 في كييف، فضلاً عن تزوير الانتخابات في أرمينيا وتعديل الدستور الذي تسبب في إزاحة نظام الحكم المستقر لنحو 20 عاماً رغم الظروف الاقتصادية الصعبة.

وفي العقود الأخيرة ارتبط شهر أغسطس/آب عند الروس بالأزمات السياسية والاقتصادية الخانقة، ففي هذا الشهر حدث الانقلاب على ميخائيل غورباتشوف، آخر زعيم سوفييتي عام 1991، ما أدخل البلاد في فوضى التسعينات التي تسببت في موت أعداد هائلة من المواطنين بسبب الجريمة وانتشار المخدرات والفقر. وفي عام 1998 حدثت أكبر أزمة اقتصادية في البلاد أنهت عملياً ما تبقى من الطبقة الوسطى. وعلى الرغم من سخونة الأوضاع السياسية في روسيا، فإن احتمال حصول ثورة شاملة كما حدث في أعوام 1905 و1917 و1991 أمر صعب التحقق، نظراً لعاملين: أولهما أن أوضاع الروس باتت أفضل من دون أي شك، والثاني أن معظم الروس لا يؤمن بالثورات طريقاً للتغيير بعد تجارب الثورات السابقة الفاشلة، لكن الحراك الحالي قد يحدث تغيّرات مهمة في النظام السياسي الروسي.

وفي الشهر الحالي تمر الذكرى العشرون لصعود بوتين إلى رئاسة الوزراء ومن ثم إلى أعلى الهرم في الكرملين، ومؤكد أن رجل الاستخبارات تعلم من تجارب سابقة للحؤول دون حصول انفجار سياسي ــ اجتماعي، لكن أخطاء القوى الأمنية يمكن أن تتسبب في توسع رقعة الاحتجاجات، وربما بات على صنّاع القرار في الكرملين النظر إلى الانتخابات على أنها من قضايا السياسة الداخلية، وليست قضية أمن قومي، والكف عن الانطلاق من أن الانتخابات ليست لمناقشة وتحسين الأوضاع الداخلية، بل لتكون روسيا جاهزة لمحاربة الأعداء الخارجيين، لأن روسيا حسب النخب التي ورثت الذهنية السوفييتية لا يمكن الانتصار عليها عسكرياً بل عبر الانتخابات الديمقراطية.

المساهمون