اتفاقية أضنة المستحيلة

اتفاقية أضنة المستحيلة

31 يناير 2019
+ الخط -
شكّلت اتفاقية أضنة، الموقعة في العام 1998، لحظة فارقة في تاريخ العلاقة السورية -التركيّة، على الرغم من أنّها جاءت أقرب إلى اتفاقية إذعان وإرغام على قبول الشروط التركية القاسية، ذلك أنها أُبرمت في لحظة ضعف نظام دمشق وهوانه، وهو الذي كان ينظر بجدّية إلى التهديدات والحشود العسكرية التركية بأنها مقدّمة لحربٍ موجعةٍ، من شأنها أن تضعضع نظام حافظ الأسد المقبل على توريث السلطة، والذي يخشى من أن تتسبّب التهديدات التركية في التأثير على سلاسة التوريث المأمول. يضاف إلى ذلك أن النظام العربي كان يعاني مشكلاتٍ جسام، لم يتعافَ منها منذ حرب الخليج الثانية، وغياب روسيا عن المشهد المشرقي منذ انهيار الاتحاد السوفييتي.
في العام 1957، وبناءً على رؤية الرئيس الأميركي، إيزنهاور، القاضية بملء الفراغ في الشرق الأوسط، أقدمت تركيا على حشد قوّاتها، ملوّحة باحتلال سورية التي أبرم نظامها معاهدة صداقةٍ مع الاتحاد السوفييتي، بيد أن الظروف، في تلك الأثناء، كانت في صالح دمشق التي لقيت دعم السوفييت المطلق، حيث لوّح زعيمهم، نيكيتا خروتشوف، بإمكانية ضرب تركيا بالصواريخ النووية، في حال أقدمت أنقرة على احتلال سورية. ولتبدأ روسيا بالتحرّك في البحرين، الأبيض المتوسّط والأسود، في دلالةٍ على جدّية الموقف الروسي الرامي إلى حماية سورية. وكانت مصر تواكب الخطر التركي، حيث بادر جمال عبد الناصر إلى إرسال قطعاتٍ من جيش بلاده إلى شمالي سورية للأسباب نفسها.
على نحوٍ مغاير للدور المصري السابق، حطّت طائرة الرئيس المصري الأسبق، حسني مبارك، 
في مطار دمشق. كانت القاهرة تستشعر جدية العملية التركية، لذا كان عليها البحث عن بدائل، وإنْ على حساب الأمن القومي لسورية، ولتتكلّل المساهمة المصرية الدبلوماسية، والدور الموازي للرئيس الإيراني، محمّد خاتمي، ووزير خارجيته، كمال خرازي، في نزع فتيل الأزمة.
مجددا، عادت أخيرا اتفاقية أضنة إلى الحياة، على النحو الذي أشار إليه الرئيس الروسي، بوتين، في لقائه الأسبوع الماضي، بنظيره التركي أردوغان، وكان الكرملين ودائماً عبر المتحدّث الرئاسي، دميتري بيسكوف، قد أكّد الاستناد إلى اتفاقية أضنة محدِّدا للتدخّل التركي في سورية؛ "الأمر الرئيسي أن لا تؤدي هذه العمليات بأي شكل إلى تشكيل أي كيانات إقليمية شبه منفصلة في المناطق الحدودية، وأن لا تهدد بالتالي السلامة الإقليمية والسياسية لسورية".
لكن، وإن كانت اتفاقية أضنة في سياق العام 1998 تعني نصراً لتركيا، فإنها والحالة القائمة تعني انحسار تركيا، وتراجعها إلى حيث أقرّته الاتفاقية، حيث حدّد الملحق الرابع في الاتفاق السماح لتركيا بالقيام بعمليات عسكرية داخل الحدود السورية مسافة خمسة كليومترات عمقاً. وبالتالي، يتجاوز التمدّد التركي في إدلب وريف حلب الشمالي المساحة التي حددتها الاتفاقية بكثير، علاوةً على أن تنفيذ الاتفاق يستلزم الاعتراف والعمل المشترك مع دمشق، وهذا الأمر، بحد ذاته، يعني التطبيع الجزئي مع دمشق، كما أن التوصيف التركي لوحدات حماية الشعب وقوات سورية الديمقراطية بأنها جماعات "إرهابية" يوازيه توصيفٌ سوري لقوّات المعارضة المتحالفة مع أنقرة بأنها جماعات "إرهابية"، وبالتالي فإن مبدأ "المعاملة بالمثل" المنصوص عليه في الاتفاقية يؤدّي إلى مفاعيل مؤثرة في قوّة تركيا داخل سورية.
كان لمفاعيل اتفاق أضنة أنه أخرج زعيم حزب العمال الكردستاني، عبدالله أوجلان، من سورية، وملاحقة مناصريه وتسليم بعض قياداته للحكومة التركية، وإنهاء الدعم المفتوح 
للحزب. وكان لتلك التدابير دورها المفصلي في إنهاء الأزمة، والحيلولة دون تنفيذ التدخل العسكري التركي، وإن في مسافة متر واحد داخل الأراضي السورية، فكان الأمر وقتئذ خسارة سورية، ومكسباً مباشراً للأتراك، غير أن تبدّل الوقائع وتعدّد القوى المتصارعة يشيان بإمكانية الوصول إلى اتفاقاتٍ جديدة، إذ بات النقاش بشأن المنطقة الآمنة، أو إحياء اتفاق أضنة، صعب الحصول. وبالتالي قد نعود إلى الصيغة التكتيكية التي تعتمدها روسيا وتركيا، القائمة على استبدال مناطق النفوذ، كأن تُستبدل إدلب بمنبج أو سواها.
في مطلق الأحوال، تجيد روسيا العمل وفق آليات القانون الدولي، في ما خصّ الملف السوري. وهذا كان بالتحديد ديدن الجهد الدبلوماسي الروسي، منذ اللحظة الأولى التي سارت فيها المسألة السورية نحو التدويل. والآن تبدأ روسيا مرحلة البحث في الدفاتر القديمة، ولعل الصفحة المفتوحة في الدفتر الروسي تشير إلى اتفاقية أضنة. وهذا في الغالب الأعم لن يسرّ تركيا التي كانت سعيدةً في زمن آخر وأوضاع أخرى، بتوقيع النظام السوري على اتفاقية أضنة. والحال أن الحل لن يكون العودة إلى تلك الاتفاقية التي بات تنفيذها غير ممكن، إن لم نقل مستحيلاً.