اترع الكأس من نهر الجنون

اترع الكأس من نهر الجنون

23 نوفمبر 2015
+ الخط -
أنت، أيّها المسافر في رحلة العمر القصيرة، يا من تترجّل في محطات الأيام هنيهاتٍ قليلةٍ لتركب قطارك للوجهة الثانية، قد يرافقك الحظّ في رحلتك، فتسافر في أرجاء المعمورة، لتتعرّف على عادات البلاد ولغاتها وقصصها، وتمتّع ناظريك بفسيفساء الأرض، ببحورها وصحاريها وجبالها.
أيها المسافر، أمعن النظر قليلاً! هل تراه؟ إنّه هناك في كلّ بلدٍ ومكانٍ وزمان، لا يتوقف ولا يهدأ، مياهه هدّارة دوماً وتيّاره جارفٌ قويٌّ وروافده متشعّبةٌ كثيرةٌ، تمدّه بالحياة فلا يشيخ ولا ينضب! إنّه "نهر الجنون" الذي تحدث عنه توفيق الحكيم في مسرحيّتة بالاسم نفسه.
هو نهر سحرّي ينساب في الصحارى، بين الثلوج وفي قمم الجبال، أو حتّى في حديقة منزلك الخلفية. لكن "نهرالجنون" لا يُضفي جمالاً على المكان، فضِفافه مليئة بالأعشاب الضّارّة لا تزينها الورود، ولا الأشجارالمثمرة، ولا يعكس القمر صورته على صفحته في ليالي الصيف الهادئة، مياهه سامّة، لا تروي من يرتادها عطشاً. ومع ذلك، ترى الناس واقفين على ضفافه طوابيرَ بانتظار وِرْدِهِ! لأنّ في مياهه قد نفثت "الأفاعي السّامة" جنوناً وبلسماً شافياً لأوجاع العقل والحكمة والرشاد.
وفي عالمنا المجنون الذي مزّقته الحروب والويلات، وانقلبت الحقائق، لنبكي على الجلادين ونترحّم على الطغاة، ونلوم الضحايا، لأنّهم تجرّأوا على البوح بكلمة "الحرية"، أو قرّروا النزوح من بلاد الخراب، نرى روّاد النهر في ازدياد، وصوت حالهم يقول: "ذو العقل يشقى في النعيم بعقله/ وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم".
يعلم شاربو النهر أعراضه الجانبيّة، فهو يُذهِب العقل ويجفّف الروح، ويُذبِل القلب فيرتاح الضمير من الألم، ويتوقف التفكيرعن البحث عن المنطق والصواب. ومع ذلك، يوصون به لأحبّتهم، كما فعل الوزير مع ملكه في المسرحيّة، لأنّ الجنون يعطيه "رغد العيش مع الملكة والناس، كي ينقذوهم من شقاء العقل".
أطلق توفيق الحكيم على بطل مسرحيته اسم "ملك من ملوك العصور الغابرة"، إشارةً مباشرةً إلى أنّ النهر ضاربٌ في عمق التاريخ، كيف لا وهو النهر نفسه الذي شرب منه من سبقنا، ليَتَّهِمَ العباقرة والمخترعين ومبدعي الموسيقى والأدب بالجنون، وليحرق غاليليو مع كتبه بعد اتهامه بالجنون والهرطقة، لأنّه كشف لنا حقيقة علميّة بسيطة، يعرفها طلبة المرحلة الابتدائية الآن: "الأرض كرويّة وتدور حول الشّمس"، وهي حقيقة قابلة للنقاش في مدارس "الأب القائد الدكتاتور"، حيث تُغسل أدمغة الأطفال بمياه النهر من نعومة أظفارهم، ومن ينجو من مفعوله يُقاد إلى معتقلات الرأي وسجون التعذيب كبيرا.
وفي عصرنا الحالي، أليس من الجنون أن نصفّق لرجالات السّياسة الذين يحصلون على جوائز السّلام، ونحن شهودٌ على الحروب التي يطلقونها في أنحاء الأرض؟ أليس من ضرب الجنون أن نراهم يعقدون القمم والمؤتمرات، تنديداً بالقنابل النوويّة والذريّة، ويغضّون الطرف عن "البراميل المتفجرة" والإبادات، لأنّها ليست مُدرجةً على جدول الأعمال؟ جنون الموت هنا وهناك وتفجيرات الكراهية في كلّ مكان، فُيعاقب الضعفاء ويُلام النازحون الهاربون من بلاد الموت ويدفع الأبرياء الثمن. ويتقدم الدكتاتور ليعلن مساعداته الاستخباراتية المشروطة على دول الديمقراطيات والحرية.
أيّها المسافر في رحلة العمر القصيرة، أرهقنا العقل، واشتد علينا وجع الضمير وضعف البصر من مشاهدة الأحزان، والآلام تفتك بجنسنا البشريّ، وجفّتْ دموعنا بكاءً على ضحايا الخوف والقتل، وتاهت بوصلة بصيرتنا أمام بحثنا عن الصواب، لنقف محتارين أمام جدليّة قديمةٍ جديدةٍ ناقشها "ملك من ملوك العصورالغابرة" مع وزيره قائلاً: "إذن، من الجنون أنْ لا أختار الجنون/ بل إنّه لمن العقل أنْ أوثر الجنون/ ما الفرق إذن بين العقل والجنون!".
ما قيمة قطرةِ عقلٍ في محيطِ جنونِ عالمنا؟
تعال، يا أخي الإنسان، لنذهب مع الذاهبين إلى ضفاف ذلك النهر، واترع الكأس من نهر الجنون. لكن، حذار! قبل أن ترتشف أول قطرة من مياهه، دعني أهمس في أُذنك كلمةً أخيرة: من غيّروا مجرى التاريخ، وعاشوا في ذاكرة الأيام، لم يقربوا هذي الضفاف أبداً.
avata
avata
سيناء دباغ (سورية)
سيناء دباغ (سورية)