05 اغسطس 2014
اتحاد الرقابة على الضمير
للرقابة فنونها، في مثالٍ شهير على التفنن في أساليب المصادرة، عرض في عز الحرب العالمية الثانية، عام 1942 في ألمانيا النازية، الفيلم الأميركي "كازابلانكا"، الذي سيصبح من أهم الأفلام الكلاسيكية، وكان قد أنتج في السنة نفسها. لم تتجرأ الرقابة الألمانية على منعه، وكان معادياً للنازية، ولكي تجعله صالحاً للجمهور، حورت في مضمون الفيلم، ما جعله فيلم مغامرة، بتحويل بطل الفيلم من مقاوم للنازية إلى مخترع "أشعة دلتا" الغامضة. كما أن الفيلم، عندما عرض مرة ثانية في 1952، لم يتردد الرقيب في حذف أَغلب المشاهد الدالة على الحرب العالمية الثانية، خوفاً على مشاعر الألمان. واستمر الأمر على هذا الحال، حتى عام 1975، حيث عرض التلفزيون الألماني الفيلم الأصلي أول مرة.
كل هذا تم بأسلوب فني، مع أَن الرقابة أكثر انسجاماً وطواعية، لاستخدام أَساليب لا علاقة لها بالفن. في معرض الرياض الأخير للكتاب، دوهمت أَجنحة ثلاثٍ من أهم دور النشر في العالم العربي، وصودرت بعض منشوراتهم، أَو كلها، ووصل الحنق بالغيارى على الأخلاق والدين إِلى تمزيق بعض الكتب. هذا مع العلم أَن الكتب المعروضة في المعارض العربية عموماً تخضع للرقابة قبل الافتتاح، بإرسال قوائم بكتب الدار. يجري المنع بالنظر إِلى عنوان الكتاب، وأيضاً إلى اسم المؤلف، فكتب سيد قطب والصادق النيهوم تُمنع لمجرد اسم صاحبها. يشمل هذا الكتّاب الاشكاليين، مثيري الأسئلة والتساؤلات، يدرجون في قائمة المنع، ولو كانت بعض كتبهم في موضوعات غير إشكالية، فسيد قطب، مثلاً، كتب في النقد الأدبي، وفي أَدب نجيب محفوظ. الرقيب لا يميز بينها، تُعامل كلها سواسية، ما دام الكاتب مشبوهاً.
الكتاب في سورية، أيضاً، لا يفلت من الرقابة، يخضع إليها قبل الطباعة، بعرضه على اتحاد الكتاب العرب، وهي بدعة اخترعها الأدباء القومجيون أَنفسهم، إذ طلبوا أن يتولوا بأنفسهم مراقبة الكتب، بحجة أَن لا علاقة للرقيب بالأدب، ما يسيئ إِلى سمعة الدولة، والكاتب والكتاب. فكانت النتيجة أَسوأ بما لا يقاس. أَصبحت مراقبة الكتب فرصةً لتصفية الحسابات السياسية والأخلاقية والعاطفية، والنبش في الرموز وفضح المواربات في التعبير، وإِحالتها إلى تجاوزات سياسية، ما دفع الكتاب الرقباء إلى التباهي بأنه يعسر على أَي رقيب في الدولة، ولو كان مخضرماً اكتشافها. الرقابة على الكتاب تحتاج إلى من يقرأ خلف السطور، وفي ما يضمره الكاتب، وإن لم يظهر في الكتاب، فحق عليهم القول بتحويل اتحاد الكتاب إِلى اتحاد للرقابة على الضمير.
لسنا نحن فقط الذين نشكو من الرقابة، فما زالت الرقابات في العالم، من دون استثناء، حتى الدول التي أَلغتها، تبتدع ممنوعاتها، تحت عناوين أخرى، كالعنصرية والعنف والمثلية... من الممكن ردها إِلى المحرمات الثلاثة الشهيرة، وإِن كانت أحياناً معكوسة. في المنطقة العربية، ليست المشكلة في التحريم فقط، بل وفي الأسلوب الذي يمارس فيه. فالمنع يبدو فعلاً إيمانياً، أَو نضالياً، مخلصاً وبناءً، وذوداً عن مكارم الأخلاق. وبالتالي، يكتسب الهجوم على الكتب بمقدارٍ من العنف يضع الهجمة نفسها في دائرة الاتهام، كما تحمل قدراً من التشهير على أمور هي موضع خلافٍ لم يحسم، فالدعوة إلى الديمقراطية أو العلمانية، تعتبر بمثابة الكفر والإلحاد وتطبيق الحد عليها. مع العلم، أَنه لا يستبعد، بعد فترة، أَن ما كان ممنوعاً يصبح مسموحاً. كما أَن الممنوع والمسموح، بالنظر إِلى التحولات العاصفة: ثورة، انقلاب، احتجاج، ربيع يعقبه شتاء، عرضة للمتغيرات.... وأحياناً، حسب مزاج موظف الرقابة، يتساهل أو يتشدد.
حساسية مسألة الرقابة سوف تبقى، سنوات طويلة، العنوان الرئيس في معاداة الثقافة، ما دام أَنها تلاحق المحرمات الثلاثة، الدين والجنس والسياسة، وهي العناصر التي تطرحها الحياة نفسها، ولا يمكن للإنسان تفاديها، مهما أفرط في العزلة، أَن تعيش داخل المجتمع يضعك في صميم تشابكاتها، والتذرع بها ينال من حق البشر في المعرفة، ولو كانت علة التحريم حماية المجتمع.
تُشرّع الرقابة وظيفتها في المصادرة، منعاً لإيذاء المجتمع المفترض أَنه سيساء إليه. من جانب آخر، لا تمكن ممارسة حرية التعبير منفرداً، ولا قيمة للرأي أو مفعوله، إِلا بتبادله مع الآخر، إذ ليس التعبير عن الرأي في سماع صدى أَصواتنا.