ابتسامة فاطمة

ابتسامة فاطمة

25 مايو 2020
+ الخط -
ابتسمت فاطمة لنفسها وقالت: يبدو أني جميلة اليوم، ويبدو أن العرس سيكون كذلك أيضاً. اختلطت مع الفتيات داخل الخيمة، كانت تستمتع بالغناء، والرقص، و"التكشيطة" الخاصة بها، وبعض التزيين الذي لا تحظى به سوى نادراً. وتطرد فكرة العمل الشاق الذي ينتظرها في الغد كما العادة.

تعبت من الرقص فتراجعت قليلاً لترتاح، تربعت أرضاً على حصيرة، وأخذت تصفق وتترنم، شعرت أن شيئاً ما يتحرك بجانبها، لوهلة خالت أن حصيرة ملفوفة تتجه نحوها، لكنها استعاذت بالله من الشيطان ثم أكملت الغناء والتصفيق. لكن الحصيرة وصلت قربها، لم يعد بإمكانها أن تشك الآن في أن جنيا يتربص بها، تكلمت الحصيرة:
- أنا محمد ولد عبد القادر الفلاني، تزوجيني!
- بسم الله الرحمن الرحيم! لمَ تختبئ هنا؟ أرعبتني! أقبل الزواج بك!

كان محمد يملك أرضاً زراعية ومواشيَ ودواجن، لذلك عاشت فاطمة براحة من الهموم إلى أن جاء المستعمر، واستولى على أراضي الكثير من المغاربة ومنهم أرض محمد. فانتقل مع زوجته وطفليه -جدي وعم أمي- وإخوته إلى منطقة أخرى غير بعيدة وتسلح وبدأ المقاومة.


علم لاحقاً أن أرضه صارت ملكاً لأحد الخونة -من المغاربة أعوان الاستعمار- فقرر الانتقام. قاد هجوماً على أرضه، اعتمد على وجود القليل من الحراسة، لكنه فوجئ بالمزيد، فاضطر للانسحاب بعد عدة مناوشات، وفي الطريق أصيب فسقط عن حصانه وفقد وعيه فاعتقدوا أنه ميت. حين استيقظ زحف ببطء نحو شجرة قريبة واتكأ، فكر في فاطمة وابنيه، تذكر أرضه المسلوبة، وبدأ ألم يمتد من قلبه الذي لمح عائلة منتصرة على حسابه وغزا كل حرف من جسده، بحيث تخدرت كل جراحه سوى جرح كرامته.

- كيف يجرؤ؟ يعيش في منزلي! يدنسه بوجود أولئك الحراس الأوغاد!
لكن ظلا أسود اقترب منه فانتبه، وغير بعيد منه وقفت امرأة تحمل إناء به لبن.
- تفضل، اشرب. سيقويك لتعود إلى أهلك.
- الله يجازيك بخير.
شرب اللبن، لكنه خرج من الثقب الذي أحدثته الرصاصة. نظر إلى المرأة، كانت تحدق به بقوة، عينان كحيلتان تدركان نهايته، ووشم على الجبين والذقن.
- لا تقلق، سوف ندفنك.
فابتسم.
- من تكون زوجتك؟
- فاطمة بنت السي الفلاني.

لم تخبر تلك المرأة فاطمة عن مكان الدفن، وحتى إن علمت لم تكن ستستطيع زيارته، فقد قرر إخوة زوجها اللجوء إلى الجبل وأخذ الطفل الأكبر -عم والدتي- معهم.

بعد شهر سمعت فاطمة بأن هناك قافلة ماضية إلى الجبل، لذلك حملت طفلها الباقي -جدي- ومشت معهم نحو الجبل، لم تكن تمتلك بغلة أو حماراً أو أي دابة لتركب عليها، لذلك كلما تعبت أمسكت بذيل الدابة التي أمامها وتستمر.

وفي الطريق الذي استمر عدة أشهر كان عليهم عبور وادي أم الربيع، كان الفصل شتاء، والأمطار تنهمر، كانت مرتعبة من الانزلاق والغرق، فربطت جدي بظهرها وتشبثت بكل قوتها بذيل حصان أمامها وعبرت. نجت، ووصلت إلى ابنها، وسلكت نفس الطريق عائدة لعدة أشهر مشياً، وهي تحمل ولدين.

كان عمرها آنذاك ثمانية عشرة سنة، لذلك تزوجت مجدداً من رجل لطيف لم يسلبه الاستعمار أرضه، أحب ابنيها ومنحهم السكر مربوطا بخيط. أنجبت فتاتين وولداً، بعد إنجابها طفلها بثلاثة أشهر مات زوجها بهدوء ولطف كما كان. لم يتسع لها الوقت للحزن على زوجها، فقد كانت دائمة الخوف على ابنها من إخوة أبيه، لأنه الوحيد الذي يمنع عنهم وراثة الأرض. فكانت تربطه بحبل بنفسها كي لا تغفل عنه.

كبرت جدة أمي وكبر أطفالها وتزوجوا، أنجب جدي أمي وهي بالدور أنجبتنا. توفي جدي قبل وفاة أمه فكانت تتمنى الموت بدلا منه، وأي أم كانت لتتمنى ذلك. لكن فكرة علقت ببالي، لو أن فاطمة استسلمت للتعب وانزلقت في النهر، لم أكن لأوجد هنا الآن أكتب هذه القصة، لذلك لعل هذا أقل شيء أفعله لأبرهن على امتناني لها لأنها جعلتني حية.