إيقاع المكان

إيقاع المكان

21 اغسطس 2019
الحروب أنهكت جنوب السودان (سومي سادورني/ فرانس برس)
+ الخط -
لكلّ مكان إيقاعه الخاص، ونغمته التي لا تشبه سواه. هناك في عمق الجنوب السوداني الجديد، حيث الناس والغابات والنيل الأزرق والأرض السوداء اللزجة والجبال في ائتلاف لا مثيل له، تلعلع فجأة أصوات الانفجارات وتتطاير الشظايا والأرواح، ولن تهمد حتى تخلو الممرات والقرى المتناثرة من سكانها، وطيورها وحيواناتها البرية، وغطائها النباتي، إما بفعل الحرائق، أو على أيدي حرّاس السلام الذين يمتهنون تجارة الفحم النباتي تحت سمع وبصر السلطات.

لعلّ ما أبقى ذلك الإيقاع على حاله، وتلك الموارد على قدرتها على التجدُّد قروناً سابقة، أن الناس هناك أقل عدداً وأقل طمعاً، وأكثر رأفة ببيئاتهم. إذ إن قدرة المورد على مقاومة التدهور تحددها قدرته على تحمل الاستغلال من قبل الإنسان أو الحيوان، أي ما يعرف بـ"طاقة الحمل"، وهي وحدة مساحية لعدد معين من السكان والحيوان، من دون إحداث خلل غير قابل للإصلاح.

يقول المدير الأسبق لجامعة الخرطوم البروفيسور عبد الله أحمد عبد الله، إنه "حتى عام 1995، كان الغطاء النباتي الشجري يتناسب عكسياً مع توزيع السكان، إذ يوجد في جنوب البلاد 68% من الغطاء الشجري، و32% في الشمال، حيث تشكل نسبة السكان 85%". وها قد اختلت هذه الأرقام مجدداً بعد انفصال الجنوب في عام 2011، وزاد بعدها حتى أن تلك القرى فقدت إيقاعها مع فقدانها السلام.

من شأن السلام إنهاء العداوات والعمل على تحقيق التنمية المستدامة للمجتمعات والشعوب، فالسلام هو المرحلة التي تسبق الأمن الاجتماعي، وإزالة أسباب نشوب الحرب. فهل حظيت تلك المناطق بسلام يكفل لها النمو والاستقرار؟



يؤكد الخبير الزراعي صلاح عوض أنه "حين تقيم الدولة البنى التحتية، وتربط الأرياف والمدن بالحياة الحضرية، وتنشر التعليم، وتوفر فرص العمل للقوى العاملة، وتحمي الأمن الاجتماعي والأملاك، فهي بذلك تنهض ببرنامج تنموي (اجتماعي ـ اقتصادي). لكنها في الوقت نفسه تنهض ببرنامج سياسي هو التوحيد الوطني، أي صناعة وطن جامع، إذ تفتح الأبواب أمام التنمية، وتعظُم فرص التقدُّم وإمكانات السماح بالمزيد من الاندماج الاجتماعي".

ما من شك أن تعاقب الحروب على أغنى المناطق بيئياً، قد أثر كثيراً على تواصل دوران عجلة التنمية. ومن شأن التنمية المتواصلة أن تصون موارد الأرض والمياه والموارد الوراثية النباتية والحيوانية، وتحفظ الطاقة الإنتاجية للقاعدة الموردية، ويتعزّز ذلك بتطوير البيئة الاقتصادية عبر الارتقاء بالإنتاجية، وزيادة حجم الاستثمار، وفق نمط قطاعي متوازن، وتطوير البيئة الاجتماعية والثقافية. وهذا ما يشكل إيقاع المكان.

يقول الكاتب برتولت بريخت: "الحرب القادمة ليست بالحرب الأولى، فقد سبقتها في التاريخ حروب وحروب، وانتهت الحرب السابقة بمنتصرين ومهزومين. عند المهزومين جاع عوام الناس، وجاع عوام الناس عند المنتصرين". ليتها تكون آخر الحروب أيها الإقليم المنهك.

(متخصص في شؤون البيئة)

المساهمون