إلى عقلاء في "حماس"

إلى عقلاء في "حماس"

18 مارس 2019
+ الخط -
إذا كانت حركة المقاومة الإسلامية (حماس) وطنيةً فلسطينيةً، بحقٍّ وحقيق، فإنها لا تقترف ما شوهد من قمعٍ بالرصاص وغيره لمتظاهرين في غزة، طالبوا بتحسين أحوال عيشهم. على "حماس" أن تعرف جيداً أن لكل فلسطيني كل الحق في أن يتظاهر ضد أي سلطةٍ، تمثلت هذه في حركةٍ مُقاوِمة أو في سلطةٍ مساوِمة. والواضح أن فائض القوة والسلطة لدى "حماس" في قطاع غزة المنكوب بالاحتلال والحصار والانقسام يجعلها تظنّ أن صورتها الإسلامية، ورداءها المُقاوم، يُجيزان لها هذه الشناعة المستنكرة في تجرّؤها على الناس تحت نفوذها، وتنعت حراكهم "بدنا نعيش" بالشّبهة، وترميهم بالتخوين، وباستخدام حركة فتح لهم، وما إلى ذلك مما لا يليق قولُه، ولا يجوز، أخلاقياً ووطنياً، إشهارُه ذرائع في مواجهة محتجّين سلميين بشراسة، يُغالبون أحوالاً شديدة التعاسة، ويتحمّلون، جرّاء خيارات "حماس" في غير وجهةٍ واتجاه، كما الساكتون من أهل قطاع غزة، ألواناً من المعاناة، وأكلافاً جسيمةً يدفعونها من حياتهم وأرزاقهم ومصائر أبنائهم، جرّاء مغامراتٍ وعنترياتٍ معلومة، والأهم جرّاء فشل منظومة "حماس" القابضة على قطاع غزة في تدبير شؤون الأهالي.
وتشاء المصادفات أن تقترف أجهزة "حماس" وشرطُتها (!) هذا السلوك الاستبدادي الذي حاول إعلامُها حرف الأنظار عنه إلى غير ما هو قدّام عيون الجميع وكاميراتهم، بعد بياناتٍ وتصريحاتٍ من الحركة تندّد بتكليف الرئيس محمود عباس الفتحاوي، محمد اشتيه، بتشكيل حكومةٍ جديدة، ذلك أن واحدَنا يُصاب بالذهول من فرط ما أقامت عليه "حماس" من حرصٍٍ كثيرٍ على حكومة الوفاق الوطني، برئاسة رامي الحمدالله، وأدائها (؟!)، عدا عن أن المعلوم الظاهر أن انفراد الحركة الإسلامية بأجهزةٍ أمنيةٍ ومليشياتٍ ضاربةٍ وصاحبة سطوةٍ في القطاع، واحدٌ من دواليب غير قليلة، جعلت الحكومة المنصرفة في حالةٍ تبعث على الإشفاق مما أعملته فيها "حماس". أما أن حكومة اشتيه "طعنةٌ نجلاء لجهود المصالحة"، فالأدعى أن يخيّط أصحابنا في الحركة الإسلامية المقاوِمة في مسلّةٍ أخرى، فضرب المصالحة البعيدة بالطعنات النجلاء (وغيرها) أبدعت فيه "حماس" وخصومها في حركة فتح معاً، بل يمكن الزعم إن من العسير على حكام الأمر الواقع في القطاع أن يبادروا إلى تنفيذ استحقاقات الخروج من الانقسام المخزي.
وبربط واقعتي الغضبة المفتعلة من حكومة اشتيه والبوليسيّة في مواجهة محتجّين ساخطين بظاهر الحال الفلسطيني الذي لا ينطق بغير البؤس والرثاثة، لا يجد المرء غير اشتهاء أن يُطلّ حكماء عاقلون في "حماس"، المؤكد أنهم موجودون، فيُبادروا إلى شيءٍ من الرشد والحصافة، وحسبان الأمور وزِِنتها. ولعل وجاهة دعوةٍ كهذه، وإنْ تبقى تقليديةً تنقصها الابتكارية والجدّة، تعود إلى أن ما تخوض فيه الحركة الإسلامية من مداولاتٍ صبورة، غير مباشرة، مع الاحتلال الإسرائيلي، في سبيل الوصول إلى تهدئاتٍ ملحّة، يدل على أن الحكمة حاضرةٌ في "العقل" الناظم لأداء "حماس"، عندما يتم استدعاء هذا العقل في هذا الملف وذاك، ويتم استبعادُه في غيرهما من ملفات. ولعل مسارعة الحركة إلى التبرؤ من رمي صاروخين من غزة على تل أبيب، قبل عشيّاتٍ أربع، ثم إعلان أن "خطأ" وراءهما، في أثناء صيانة عناصر منها عدداً من الصواريخ، يدلان على أن مقادير التعقّل في الحركة يمكن أن تصل إلى هذه الحدود، سيما وأن إسرائيل تعاملت بإيجابيةٍ مع هذه الرواية، بعد غاراتٍ "تقليديةٍ" قامت بها بعد رمية الصاروخين.
ومن بين معانٍ وفيرةٍ يحيل إليها هذا الأداء من "حماس"، وهي تحسب الحسابات، وتقيم الاعتبار تلو الاعتبار للوسيط المصري بينها وبين إسرائيل، أن في وسع الحركة المجاهدة، والتي ما قصّرت يوماً في رفع قيمة المقاومة في الوجدان الوطني الفلسطيني، وبذلت من التضحيات الجسام ما لا قِبل لمعلقٍ عجول، في هذه السطور، أن يعدّها، في وسعها أن تفعل الأمر نفسَه، فتبلور الحسابات والخيارات في صالح فلسطين وشعبها، أولاً وأخيراً، قبل أي حساباتٍ فصائليةٍ لصالح "حماس" نفسها، ولمكايدة "فتح" ومحمود عباس، فترمي وراء ظهورها المكشوفة للعدو الإسرائيلي كل المحاذير التي يتوهمها نافذون في الحركة إذا ما أقدمت، بشجاعة، إلى مصالحةٍ وطنيةٍ، تُنهي الانقسام السياسي والجغرافي والنفسي. وفي الموازاة، أن توقن أن تجربة حمْلها بطيختي السلطة والمقاومة فشلت، فالناس محقّون تماماً في شعار حراكهم "بدنا نعيش"، وهذه الصيحة لا يجوز أن تُقابل بالعنف والعصي والرصاص. وأغلب الظن أن العاقلين في "حماس" يعرفون بديهية هذه النصائح.
358705DE-EDC9-4CED-A9C8-050C13BD6EE1
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.