إلى بلادنا نذهب كلّما غفونا

إلى بلادنا نذهب كلّما غفونا

15 مايو 2016
مصطفى الحلاج / فلسطين
+ الخط -

سَمَك
آه يا أبتِ أبتِ الذي لم أرك. كنت أصغر من ابني حينما سمعت القذيفة. دويٌ أرعب من سود كوابيسك. البالماخ خلفك من ثلاث جهات. لا هواء في الشعاب. صراخ نسوة وأطفال مذعورين. هكذا حتى وصلت خان يونس. على تلة رمل نُصبت خيمة تبرع بها غامضون، وتحت الريح، جاء أُخوتي. أتذكر؟ البنت الثالثة، ما إن نزلت حتى طارت الخيمة. كم رأيت، وكم لم يفهم عقلك البسيط: البسيط مثل غيمةٍ ونقيق ضفدع. كم رأيت! لكنني أنا لم أرك. واليوم أزورك كلّما عننت على البال. معذرة يا أبي، عشرون عاماً بأثقالها، لم تعِنّي. وحسْبة السمك أيضاً لها دخْل. صارت زيارتك تعني استنشاق أفظع الروائح. أكانت تنقصك تعاسة الدفن هناك؟


مشوار
أمشي وراءها، في شوارع الطين والتراب.

كيس اللوز "أبو خط أحمر" فوق رأسها، مملوء بالقشور. وعلى صدرها تحتضن كيس "القلوب" القطني.

يداي متهدلتان على جنبي، ورقبتها صالبة.

نقطع حارة زعرب وننزل في الهَوَدِة، حتى نصل شارع جمال عبد الناصر، ثم نعبر سوق الخشب والحديد، فالسكة القديمة، لندخل حارة المصريين.

تمشي بخطوات ثابتة. وأنا وراءها أودّ أحياناً لو تخفّف من سرعتها، لأتمعّن أكثر في ما يصادفني من أكوام البطيخ والشمّام وعناقيد البلح.

تمشي، ولا يخلو الأمر، من وقفات قصيرة، حين تصادف إحدى رفيقاتها، فتتكلمان وتتواسيان ثم نواصل الطريق.

نصل مدرسة الحكومة، ونأخذ على اليمين، في ذلك الشارع الطويل، حتى نشارف "هنقر التموين"، فنكسر على الشمال.

إنها تخطو الآن بحذر. فكارّات الحمير والبغال كثيرة هنا، والخلق زحمة.

نواصل ونتجاوز تلال اللوز الجاف وهي تنفث فوحَها الثقيلَ تحت الشمس، إلى أن نصل للرجل السمين ذي اللون المحروق تحت العريشة.

تُنزل أمي حمْلها، وتأخذ نفَس الراحة الأول. وبِشَاشَتِها تمسح عَرَق الطريق.

يرحب بها العامل، ويزن كيس لُبّ اللوز، ويسجل في دفتر مهترئ، وأحياناً ينقدها أجرتها، ونعاود الكرّة:

يملأ الكيس أبو خط أحمر، وقد فرّغه من القشور، ويضعه على القبّان. ويسجّل في ورقة الدفتر.

ونرجع. نمرّ على تلال البطيخ والشمام وقطوف البلح. أخجل أن أطلب، فأنا حاسس بالحال.

لكنها تقف، رغم الثقل، وتبتسم وتشتري ما تقدر عليه.

ولا مرة ذهبنا وعدنا إلا وفي يدي شيء: عجوة أو رطب أو حتى بلح.

ماتت أمي في حضني، بعد 47 عاماً من تلك الأيام. وكان الحال تحسّن.

زرتها ثاني أسبوع، وزرعت على قبرها نخلة.


فيزياء
ليست سهلةً التحوّلاتُ يا أخي: صرخةُ
ميلادكَ ـ مثلاً ـ احتاجت ستين عاماً، لتفقد طاقتها
وتنتهي بهذا الأنين.


(1987)
فتشّنا عنها في أجسادهم
لكن الحياة سبقتنا
وذهبت إلى مكان مجهول.


(1993)
أوسلو: سيُرغمُ
الحَمَل
على مباركة الذئب.


(2008)
على أشلاء البيت، يعوي الجيران
فيما كلبهم
يحدّق ويتأمّل.


(2014)
بعد مرور الدبابة
وحدها عشبة القُرّيص
تواصل النموّ.


(...)
عبروا المتوسط أخيراً
بعد وقتٍ، أوقن:
أصدقائي يتحوّلون إلى قنافذ.


(...)
إلى بلادنا نذهب
كلما غفونا
دع اللاوعي يتدبّر الأمور.


أثير
حين تطول التراجيديا، تنقلب إلى مهزلة. مسكين يا شعبي! لأنك الوحيد بين الشعوب، الذي سُرق منه وطنه في زمن حداثي. زمن "كل ما هو صلب فيه، يتبدّد ويتحوّل إلى أثير". مسكين يا شعبي. لقد جاءت الحداثة وبالاً عليك وعلينا، وعلى كل تلك الحقائق الفلّاحية، التي كنا نظنّها صلبة، فإذا بها اليوم.. "تتبدّد وتتحوّل إلى أثير".


إعتام
أين تذهب النظرة عندما يُعتم التاريخ؟


مطاردة
أينما حللت، داومَك الانطباع: مثل فأر الخزانة، مثل صرصار المطبخ: في غير موضعك.


سمكة
أنا سمكة في اللجّة يا أبي. أنا السمكة التي جاءها الدورُ لتُصطاد. سمكةٌ يحتاجها كبيرُ فاشييهم، ليعود إلى المنصب. أنا تلك السمكة يا أبي. أنا سمكة. وغزة الآن: ليلْ.
وليل إضافي ومطر.

المساهمون