إلى انتخابات الرئاسة في تونس.. النظام القديم يقترب

إلى انتخابات الرئاسة في تونس.. النظام القديم يقترب

14 يوليو 2014

الباجي السبسي وخلفه حمادي الجبالي (ديسمبر/2011/أ.ف.ب)

+ الخط -

قررت الهيئة المستقلة للانتخابات في تونس شهر نوفمبر/تشرين الثاني المقبل موعداً للانتخابات الرئاسية والتشريعية، ما شكل إشارة إطلاق لكرنفال بناء التحالفات بين الأحزاب، ورسم لاستراتيجيات الحكم وبناء الجمهورية التونسية الثانية.
تأتي الانتخابات الرئاسية، بعد خروج القوى المحسوبة على الثورة من الحكومة، وقبل الحكومة من وزارات السيادة، أي الداخلية، الدفاع، الخارجية، والعدل، بينما يتهيأ النظام القديم، في هذه الانتخابات، لاسترجاع الرئاسة، وهي المؤسسة الوحيدة التي بقيت خارج تأثيره المباشر، والمعبرة إلى هذه اللحظة عن روح ثورية معادية، ومتناقضة بشكل أو بآخر، معه ومع مراكز القوى التابعة له، مالياً وأمنياً وإعلامياً.
تصر استطلاعات الرأي على أن رئيس حزب نداء تونس، الباجي قائد السبسي، يتقدم أكثر من أي مرشح آخر في نيات التصويت لدى التونسيين. ويليه الرئيس الحالي، المنصف المرزوقي، ويصر الباجي على أنه خليفة الرئيس الراحل، الحبيب بورقيبة، والمؤهل الوحيد لشغل موقعه في قصر قرطاج، والمؤتمن على تراثه ونهجه. وفي وجوده في خندق المعارضة، يتصرف الباجي السبسي وكأنه الرئيس المنتظر، ويحتفل بمناسبات تاريخية لبورقيبة، (مثل ذكرى عودته من منفاه إلى ميناء حلق الواد)، بشكل احتفالي وطقوسي، غطته وسائل الإعلام الرسمية.
وفي الأثناء، يريد النظام القديم وعصبيات المال والسياسة الموالية له استكمال عودة سيطرتهم على مقاليد السلطة، بوصول أحد رجالهم إلى قصر قرطاج، وليغلق قوس الثورة التي انتظر التونسيون، بعد انتخابات ٢٣ أكتوبر/تشرين ثاني ٢٠١١، أن تنجح في بناء نظام سياسي جديد أكثر عدالة واستقلالاً، تردّ فيه حقوق إلى مستحقيها.
لكن حكومة الترويكا عجزت عن تحقيق أيٍ من المطالب والوعود، الاقتصاد تعمقت أمراضه الهيكلية السابقة، إفراطاً في الاقتراض وتراجعاً في الإنتاج. كذلك الحال في ما يتعلق بالعدالة

الانتقالية، والتي تعطلت، ولم يتحقق شيء من محاسبة المتورطين في جرائم التعذيب أو النهب أو القتل، وانتهى الأمر، في آخره، باستقالة حكومة الترويكا، ووصول حكومة كفاءات، غير حزبية، مدعومة خارجياً، لتصلح من أمر الاقتصاد، وتهيئ البلاد للانتخابات.
هذا ظاهر الأمر، أما باطنه، فهو عودة الإدارة القديمة، خطاباً وسلوكاً وشخوصاً، إذ بعد التراجع عن التعيينات الإدارية لحكومة النهضة وشركائها، وبعد إطلاق سراح رموز النظام القديم أمنياً وسياسياً، تكون الانتخابات الرئاسية، في هذا السياق، استكمالاً لخطوات مدروسة، وتتويجاً لعودة نظام ما قبل ١٤ يناير، والذي بقيت أذرعه المالية والإعلامية والأمنية تشتغل بكل ما أوتيت من قوة.

المرشحون للانتخابات الرئاسية كثر، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، إلا أن الاصطفاف فيها سيكون محكوماً بين انتماءٍ للثورة، على اعتبارها شرعية الحكم الجديد، وتأكيدٍ على استمرارية الدولة، وتدعيم سلطتها.
وسيلبس الباجي السبسي، في حملته لاسترجاع قصر قرطاج، عباءة بورقيبة الكارزمية، وسيردد، بببغائية، بعض كليشيهات بورقيبة الخطابية، ليؤكد، كما يردد حالياً، أن الدولة التي بناها بورقيبة صمدت، وأفشلت من حاول تغييرها.
في المقابل، سيشدد المرزوقي، في حملته، على أن الثورة لم تقل كلمتها الأخيرة بعد، وأن التونسيين لن يتراجعوا عن بناء جمهورية ثانية، ونظام سياسي جديد، يقطع مع النظام السياسي القديم. ويزيد التأكيد، كما ردد سابقاً، أن الثورة المضادة ربحت جولة، لكنها لم تكسب الحرب، وأنها من تسبب في الصعوبات التي واجهتها حكومة الترويكا في تحقيق برنامجها، داعياً الثوريين إلى تطهير الإدارة والإعلام من أيتام زين العابدين بن علي.
بين هذين الحدين من الخطاب، يكون مدار الصراع من أجل الرئاسة في تونس. وأغلب المرشحين الآخرين يتوسطون، ويراوحون بين هذين الحدين، ويأخذون من الرأيين، كل حسب موقعه السياسي أو الأيديولوجي، وبحسب القوى التي تقف وراءهم، يميناً أو يساراً.
لنقترب من وقائع المجريات، ربما تسعفنا نظرة في الاستطلاعات الجارية، ففي سوادها الأعظم تعطي ثلاثة مرشحين المراتب الأولى في نيات التصويت، الباجي قائد السبسي، رئيس حزب نداء تونس، يليه الرئيس الحالي، منصف المرزوقي، ثم حمادي الجبالي، رئيس الحكومة السابق.
وقد ثبت الباجي في المرتبة الأولى، في أغلب الاستطلاعات، وتبادل الجبالي والمرزوقي المرتبتين الثانية والثالثة بالتناوب. في الوقت عينه، يشكك كثيرون في هذه الاستطلاعات، ويرونها موجهة لدعم مرشح دون سواه، إلا أنها تبقى في حدودها الدنيا تعبيراً عن التوجه الانتخابي العام للتونسيين.
لكل من المرشحين معسكره؛ فالباجي مرشح الإدارة القديمة، ويحصل على دعم كبار رجال الأعمال، ووجوه سياسية وإدارية كثيرة، وما تحوزه من شبكة علاقات سياسية ومالية كبيرة عابرة للحدود. لكن ما قد يعيقه بدرجات متفاوتة، عامل سنه المتقدمة، وغربته عن الشباب، خطاباً وسلوكاً، وهم يشكلون نسبة كبيرة من الكتلة التونسية الناخبة.
أما المرزوقي، وعلى الرغم من موقعه الرئاسي محدود الصلاحية، ورغماً عن حملات التشويه والترذيل التي مارسها إعلام الحرس القديم بحقه، إلا أنه بقي عنواناً للمطالب الثورية والمواقف المبدئية التي أقلقت حتى حلفاءه. لكن، لا متسع لإنكار غياب الآلة الحزبية التي تدعم المرزوقي، وتوصل رسالته إلى الناخب، إضافة إلى ما عرف عنه من نزق وتسرع.
بينما حمادي الجبالي، وهو الأمين العام السابق لحركة النهضة، ورئيس حكومتها الأولى، وجه إسلامي معروف باعتداله، ولديه نصيب من دعم كبير في منطقة الساحل، ولدى بعض الأطراف الدولية، كذلك قبول أنصار النهضة له على اعتباره الاسلامي الوحيد، من دون نسيان إصراره على أنه مرشح مستقل عن أي حزب، و"النهضة"، من جهتها، لم تصدر موقفاً رسمياً في دعمه، بل أرسلت إشارات إلى أنها ربما دعمت مرشحاً غيره.

وعلى العكس من الأحزاب السياسية الأخرى، بقي موقف "النهضة" من الرئاسيات غامضاً مشرعاً على كل الاحتمالات، ولم تحسم أمرها بتقديم مرشحٍ من بين صفوفها، أو بدعم أحد

 المرشحين.  
لا يخفى على عين المتابع الموقف الحرج الذي تواجهه "النهضة"، بعد التطورات الدولية المتلاحقة، وخروجها من الحكم، فهل تتقدم بمرشح من بين صفوفها، وتعود إلى الحكم، وهي التي كانت قد أخرجت منه بالعنوة والتهديد؟ وأيضاً، يمثّل ما حل بـ"الإخوان المسلمين" في مصر، وهم أكثر قوة وجمعاً، درساً للنهضة تكرر مراجعته. هذا في ظل حيرة حادة بشأن دعم أحد المرشحين، فإن دعمت مرشحاً آخر، فأيهم يحفظ العهد ويشاركها الحكم، وأقلها أنْ تأمن شره، وقد أعطى الدستور الجديد صلاحيات أوسع للرئيس المنتظر.
اختارت "النهضة" بعد المشاركة في الحوار الوطني الذي أدى إلى إخراجها من الحكومة اتباع سياسة المهادنة مع حزب نداء تونس، ورئيسه الباجي قائد السبسي، فرفضت تحديد سن قصوى للمترشحين لمنصب الرئاسة، ثم رفضت على النهج نفسه اعتماد قانون العزل السياسي. ومن الجلي أن "النهضة" في حال استكملت هذا الخط، ودعمت أحد المرشحين، غير الجبالي أو المرزوقي، المنافسين الرئيسيين للسبسي، سواء كان أحمد نجيب الشابي مرشح الحزب الجمهوري، أم غيره من المرشحين للاستحقاق الرئاسي، فإنها تكون قد فتحت الطريق، مرة أخرى، أمام السبسي لمنصب الرئاسة، أما إذا دعمت الجبالي المصرّ على الترشح مستقلاً، فتكون ربما تجاوزت الحرج إلى حين، من دون أن تأمن ما حرصت على تجنبه من سيناريو مصري في تونس، ينتهي بالانقلاب على خيار التونسيين، والانتقام من الإسلاميين.
ربما يبقى الرئيس الحالي أهون الشرين، وأخف الضررين لتدعمه، في وجه تغول الدولة العميقة، والمعركة بين المرزوقي والدولة العميقة لم تنقطع منذ اليوم الأول لدخوله قصر قرطاج، وانتخابات الرئاسة شوط في هذا الصراع. ستكون النهضة المستفيد من صراع الرئاسة مع النظام القديم، وستخسر بفداحة إذا استكمل هذا النظام استرجاع موقع الرئاسة، ليلتفت، حينها، لحركة النهضة، محمولاً بروح انتقامية وثقافة استئصالية، تنغرس عميقاً في اللاوعي الأمني للأجهزة التونسية.
اشتراط حزب النهضة تزامن الانتخابات البرلمانية والرئاسية، وغموض موقفها من الرئاسيات، يجعلها أكثر قدرة على المساومة والضغط، وهي تسير، في هذا الأمر، على خيط رقيق وحسابات دقيقة.
تبقى الانتخابات الرئاسية في تونس، أول دول الربيع العربي، مفتوحة على كل الاحتمالات، تحسمها تحالفات كبيرة ومعقدة واستراتيجيات متباينة. أيضاً، يظهر مرشح حزب نداء تونس والحرس القديم، الباجي قايد السبسي، في صورة المؤهل الأول للفوز، تعينه أجندة إقليمية ودولية، تقودها أجندة إعادة إنتاج دول ما قبل الربيع العربي، في مصر وسورية وليبيا.

 

7AF34473-A589-4794-A96F-2595B315C7C3
الطيب غيلوفي

كاتب وباحث تونسي