إلى ابني الحنون

إلى ابني الحنون

19 يوليو 2018
+ الخط -
مرَّ وقتٌ طويلٌ منذ آخر رسالة كتبتها لكما. لكن، على الرغم من هذا الوقت، فلم تغيبا عن خاطري خلال حياتي المعيشة إلا لحظات قليلة في خضم اليوم المليء بالعمل والزحمة والبرد والمجاملات، والسعي نحو توفير حاجياتنا الأساسية، حالنا حال باقي شعوب العرب كما تعلم.
على الرغم من تلك السنوات التي فصلتني عنكما مكانياً، إلا أنني ما زلت أشعر وكأنني خرجت من المنزل صباح هذا اليوم، وسأعود إليه في المساء كما العادة. وقد كنتُ أعيشُ معكما الأمس بكل تفاصيله.
بنيّ الغالي، عقلي ما زال يرفض أنّني انفصلت عنكما في المكان، وخرجت من حياتكما اليومية بلا عودة، وعنكَ أنتَ بالذات، يا إلهي كم أكره فكرة الذكرى، فيما يخص تلك الأيام الخوالي، لكم وددتُ أن أعيش معكما تفاصيل اليوم والليلة كاملين، على الرغم من هذا البعد، وعلى الرغم من هذا الإنفصال. لكن الظروف التي ما زالت تحيط بكما حالت بيني وبين ذلك، بكل حقدٍ وشرٍ طال براءتكما وطفولتكما وعلاقتنا، وقد كنتُ ألاحظ ذلك بحزن بالغ، عندما كنا نلتقي في ذاك المكان البائس، لم أتصوّر يوما أن تصل علاقتكما بي إلى هذا الشكل الغريب علينا جميعا!
من أي معمل كراهية وغباء أتتكم تلك البضاعة الفاسدة، يا أحباء عمري ولُبّ عقلي، من أين؟
في أحد مساءات يناير الفائت، أنهيتُ عملي باكرا جدا على الرغم من قِصر اليوم. لقد قاربت الشمس على المغيب، وهي كما تبدو، كأنها لم تشرق هذا الصباح، إذ كانت الغيوم كثيفةً، والجو معتم ضبابي كما أحب تماما. كنت وقتها أسير على عجلةٍ من أمري بين عيادة هذا الطبيب وذاك، علّني أُنهي عملي باكرا كما حدث يومها. لقد دفعني إلى ذلك أمرين اثنين، أولهما أنني كنت أشعر بالجوع الشديد، وكما تعلم بني، أفضل تناول طعامي في المنزل، والثاني أنني كنت لا أريدكما أن تنتظراني على الطعام طويلا كما تفعلان دائما، وترفضان الأكل قبل عودتي من العمل. بعد هذه السنوات، أحيانا كثيرة لا أدرك بعدُ أنني تركت المنزل الذي تعيشان فيه، وذهبتُ هناك إلى تاريخٍ آخرَ جديد.

بنيّ الحبيب، لا يمكن أبداً أن تحملكما تلك الكلمات البسيطة إلى العالم الذي أعيش فيه الآن بعيداً عنكما، أو أن تساعدكما، ولو قليلا، على أن تتصوّرا ماهيته وكيفيته وشكله، لا يمكن، ولا يمكن أيضا أن تجعل من وجدانكما روعة وشوقا حين تذكراني، وأنا ما زلت أمارس الحياة الصعبة على وجه الأرض. لكن، لا بد لي أن أبذل هذا الجهد المضني وغير المجدي، كما أعتقد حاليا، على الأقل، خلال هذا الزمن من عمركما، والذي قد يكون له كجهد معنى آخر وطعم مغاير في أزمنة أخرى مقبلة، وأكون قد بذلته وحولته إلى حبر على ورق، وتجداه على أحد الأرفف في مكتبة مهملة هناك في وسط البلد، خصوصا حين أكون قد رحلتُ تماما عن عالمكما، وعن هذا العالم كله، وحين تصير ممارستي للحياة صنعتي القديمة.
حبيب عمري، أريدك أن تعلم أمراً غاية في الأهمية بالنسبة لنا جميعا، وهو أني لم أشعر ولو لحظة واحدة ببعدي عنكما، أو بالإنقطاع عن تفاصيل يومكما على الرغم من هذا البعد، فعقلي ما زال يصنع لي تلك التفاصيل في الصباح والمساء، حين كنا نجلس على المائدة، لتناول فطور يوم الجمعة، وعندما أعود من العمل، ويوم نذهب إلى المطعم أو الحديقة، ولحظة كنتَ تفتح لي باب المرآب، وتلك الإبتسامة الرائعة التي كانت تزيد محياك روعةً ورهفة وبراءة، والتي كانت تنسيني عناء اليوم، أو لحظة تسرعان إلى عناقي فور دخولي المنزل، وأيام السهر على التلفاز مساء الخميس حتى ساعة متأخرة، ويوم نذهب إلى السوق في المطر، أو حين كنا نذهب إلى ذاك الشارع الخارجي المخيف، بعد منتصف الليل، ونترجل من السيارة، ونسير عبر العتمة والسكون.. كل هذه التفاصيل، بنيّ، أعيشها يوميا وبكل الفصول، لكني لا أعرف شيئا عن تفاصيل حياتكما الحالية، وهذا ما أدخلني في نوبات حزنٍ، غاية في القسوة، لكن عقلي الباطن أوجد لنا تفاصيلنا الخاصة التاريخية، كما أخبرتك، والتي أعشقها معكما.
BB0E1626-EC3F-46CE-91BA-116FA9609C27
BB0E1626-EC3F-46CE-91BA-116FA9609C27
بشار طافش (الأردن)
بشار طافش (الأردن)