إكسير الحياة الأحمر القاني

26 مايو 2014

شاي

+ الخط -


أوقفتني كلمتي عن "أوراق الليمون" أمام ما أسميه "مركزية" الشاي في حياة أناس بلادنا (البلاد الشامية)، وتخلله مناحي حياتنا اليومية، فلا صباح يشرق علينا بشمسه الكبيرة من دون الشاي، ولا غروب يحلُّ على برنداتنا بسلامٍ من دونه. شاي بالميرمية ذلك هو شاي الصباح، الشتوي خصوصاً، شاي بالنعنع ذلك هو شاي الغروب المبترد، بعد صهد النهار. شاي بالقرفة للنساء النفساوات. شايٌ ثقيل أسود لأصحاب المزاج. شايٌ بالقرفة والجوز في مقاهي الشتاء، شاي سريع، حلو، يحوم حوله الذباب في كراجات السفر.
ولكن، هل ابتعد الشاي، دم أناس بلادنا الأحمر القاني، عن أصله، مشروباً روحياً عند مكتشفيه الأوائل: رهبان الصين؟
لا يشبه شاينا شاي الصين أو اليابان، ولا شاي الانكليز، ولا شاي الإيرانيين، ولا حتى شاي أشقائنا المغاربة. لعل الأقرب شبهاً له هو شاي الهنود والأتراك.
لكن استخدامات الشاي والنكهات المضافة إليه، أردنياً وفلسطينياً، (مشرقياً على نحو أوسع) تكاد أن تكون خاصة بنا. الشاي، عند أممه الأولى (اليابان والصين) لا يعمل مرافقاً، لا بد منه، مع الطعام. إنه، بالأحرى، شاي تقاليد وتأمل وانتعاش روحي.
ويشترك الصينيون واليابانيون مع المغاربة في استخدام الشاي الأخضر، لكنهم يختلفون بعضهم عن بعض في استخدام النكهات المضافة إليه. المغاربة أضافوا النعناع إلى الشاي الأخضر، لكنهم يغلونه ويسكبونه بطريقة خاصة، تجعل له رغوة على وجه الكأس، بينما لا يفعل الصينيون واليابانيون ذلك، فهم لا يغلون مادة الشاي بالماء، بل يضيفونها إلى الماء بعد أن يغلي، وبذلك، لا يفقد الشاي خواصه في أثناء الغلي.
الانكليز الذين روجوا الشاي على أوسع نطاق، بعدما نقلوا نبتته، كما يقال، من أديرة الصين إلى مستعمراتهم في شبه القارة الهندية، يشربون الشاي أكثر منا، لكنه شاي "ماسخ"، عديم الطعم تقريباً. تقاليده الوحيدة كانت راسخة ومقدسة عند الطبقة الأرستقراطية التي انقرضت، أما عوام الانكليز فيشربونه، طول الوقت، ولكن، من دون تقاليد تذكر. التقليد الوحيد هو إضافة الحليب البارد إلى "المغ" الكبير الذي يطفو كيس الشاي على وجهه، كبطة نافقة.
لقد قضت "أكياس الشاي"، برأيي، على نكهة الشاي وتقاليده. الشاي الحقيقي، بالنسبة لي حتى اليوم، هو الشاي "الفلت". ذلك الذي تتمدد أوراقه المفروقة، أو المطوية، في الماء المغلي، لتنفث تلك الرائحة العبقة التي تنتشلك من أعمق آبار النوم، أو التي تعدك بانتعاش ونشوة تشبهان الخمر.
***
عندما ذهبت إلى بيروت، لاحظت أن مشروب الصباح هو القهوة، وليس الشاي. كان غريباً على الذين عرفتهم هناك أن يروني أشرب الشاي لأصحو. الصحو عندهم يكون بفنجان القهوة الذي له تقاليد راسخة وعريقة هناك. حتى الطائفية التي أقيم لبنان الرسمي على رقعتها الموزاييكية العجيبة، لم ينج منها ما يشربه أهل ذلك البلد، فقد لاحظت، مثلاً، أن المسيحيين، إجمالاً، لا يشربون الشاي إلا كـ"دواء". كما أنهم يفضلون القهوة، غالباً، من دون حب الهال، على عكس الشيعة، في الجنوب والبقاع، الذين يعتبر الشاي "مركزياً" عندهم، ولهم تقاليد في ذلك تشبه تقاليد الإيرانيين، فلا يمكن أن تتخيل حياة الجنوبيين والبقاعيين من دون الشاي، وهو، أيضاً، ليس بعيداً عن الطقس الديني، ففي عاشوراء يشرب البقاعيون الشيعة الشاي بالقرفة، ويسمونه "شاي عاشوراء".
وللمصريين، خصوصاً فقراء المدن وأبناء الريف وأهل الصعيد، علاقة خاصة بالشاي. إنه إكسير حياة أيضاً، غير أنه لا يرتبط تماماً بالطعام، كما يرتبط عندنا (الديار الشامية)، وإنما كمشروب للمزاج، (يعدل الدماغ)، يستعان بحلاوته وعبقه وكافيينه، على ضنك الحياة اليومية، وله في الأدب المصري منزلة خاصة، تشبه منزلة "الأتاي" في الأدب والفن المغاربيين، "والأتاي" في الأدب والفن المغربيين واضح. يكفي أن نعود إلى أغاني "ناس الغيوان" أو "جيل جيلالة" أو قصائد "الملحون" لنرى مركزيته في الحياة المغربية.
وعلى الرغم من تجذر الشاي في حياة بلاد الشام، إلى درجة لا يمكن تصورها من دون وجود الشاي، إلا أنه لم ينعكس في أدبنا. كتبنا كثيراً من قصائدنا على طاولات المقاهي، أو كانت المقاهي ثيمة رئيسية في هذه القصائد، ولكن، أين الشاي فيها؟
أين الشاي بالنعنع،
 والشاي بالقرفة،
والشاي بالميرمية،
 والشاي بالهيل،
والشاي بالحليب،
 في أدبنا الشامي؟ أين كاسة "الإينر" التي كنا، في مطلع شبابنا، ننظر إلى الذين يطلبونها في المقاهي، بنوع من الحسد الخالص؟ فلم نكن، نحن الشبان الصغار، الفقراء، نملك ما يكفي لشراء هذه الكاسة الباذخة، المكونة من الشاي والقرفة والجوز.
الشاي في مواطنه الأولى (الصين، ثم اليابان) مشروب أرستقراطي، له مراتبه وطقوسه وبروتوكولات تقديمه، لكنه عندنا عكس ذلك: إنه مشروب الفقراء، أو على حد تعبير شاعر عراقي (لا أتذكر اسمه الآن): خمر الكادحين!

 

E7B23353-660D-472F-8CF3-11E46785FF04
أمجد ناصر

شاعر وكاتب وصحفي من الأردن