إقالات تبون بالمخابرات والجيش بالجزائر: هيكلة تدريجية للمؤسسات الأمنية

إقالات تبون بالمخابرات والجيش بالجزائر: هيكلة تدريجية للمؤسسات الأمنية

15 ابريل 2020
يسعى تبون لتحويل المشهد لصالحه بعد وفاة قايد صالح(Getty)
+ الخط -



قبل تعليق تظاهرات الحراك الشعبي في الجزائر في 20 مارس/آذار الماضي، كان أكثر الأسماء التي هاجمها المحتجون، قائد جهاز الأمن الداخلي التابع للمخابرات واسيني بوعزة، إذ رفعت شعارات ضده تتهمه بمحاولة لعب نفس دور الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي لجهة القمع وحملة الاعتقالات والتضييق على الناشطين والمعارضين والصحافيين، والضغط على القضاء والقضاة لإدانة الناشطين، والضغط على الإعلام، خصوصاً أن هذه الممارسات البوليسية سبّبت حرجاً كبيراً داخلياً وخارجياً للسلطة السياسية الجديدة، وكانت تذهب باتجاه مخالف تماماً لرغبة والتزامات الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون التي أعلنها للجزائريين والتعهدات الخاصة التي قطعها مع شخصيات معارضة التقاها عقب تسلمه السلطة. لكن تبون وفي غفلة أزمة وباء كورونا، قرر أمس الأول الإثنين إقالة المدير العام للأمن الداخلي، إحدى الأذرع الثلاث لجهاز المخابرات الجزائرية، وتعيين العميد عبد الغني راشدي بدلاً عنه، بعد أقل من أسبوع من إقالة مدير دائرة حيوية في الجيش هي "التحضير والعمليات"، اللواء محمد بشار، وتعيين اللواء محمد قايدي خلفاً له. هاتان الخطوتان ترسمان بعض المؤشرات المتعلقة بمعالجة مخلّفات مرحلة ما قبل الانتخابات الرئاسية في ديسمبر/كانون الأول الماضي، وتطلقان في المقابل إشارات إيجابية باتجاه رغبة جدية لتبون في إعادة هندسة مراكز السلطة، واستبعاد الجهاز الأمني من أي تأثير في المشهد السياسي وحصره في نطاق مهامه الأمنية، قبل بدء الرئيس إطلاق خطته للإصلاح السياسي والدستوري.

وأشرف قائد الجيش بالنيابة اللواء سعيد شنقريحة، على تنصيب راشدي مديراً عاماً للأمن الداخلي، وقال لكبار الضباط في الجهاز: "إني آمركم جميعاً بالعمل تحت سلطته وطاعة أوامره وتنفيذ تعليماته، بما يمليه صالح الخدمة تجسيداً للقواعد والنظم العسكرية السارية وقوانين الجمهورية، والالتفاف حول قائدهم الجديد ومساعدته على أداء مهامه".
وتخرّج راشدي من المدرسة العليا للأمن التابعة لجهاز الاستخبارات، ويحوز أيضاً على شهادة دكتوراه في العلوم السياسية، وعمل في عدد من الولايات الجزائرية كمدير لقسم الاستخبارات والتنسيق الأمني، كما عمل كضابط لجهاز المخابرات الجزائرية في عدة عواصم في العالم. وفي العام 2017، عهد إليه الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة بإنشاء وإدارة معهد الدراسات العليا في الأمن الوطني كمؤسسة مستقلة ملحقة بالرئاسة.

لا يُعرف إن كانت التغييرات الأخيرة مقررة سابقاً والأزمة الوبائية دفعت الرئيس تبون إلى إرجائها حتى اليوم، في سياق توجّه نحو انفتاح تدريجي وتهيئة ظروف أفضل لطرح مسودة الدستور الجديدة. لكن المحلل والكاتب المتخصص في الشؤون السياسية محمد ايوانوغان يميل إلى الاعتقاد أن ملف الضغوط الأمنية على القضاء والتجاوزات التي حدثت في الفترة الأخيرة، لا سيما في قضية محاكمة الناشط البارز كريم طابو والطريقة الهوليوودية في اعتقال الناشط إبراهيم دواجي وغيرها، قد تكون وراء إقالة قائد أهم جهاز في الاستخبارات. ويضيف ايوانوغان لـ"العربي الجديد" أنه "من الواضح أن بوعزة يتحمّل مسؤولية كبيرة في التجاوزات المفضوحة التي ارتكبتها بعض المحاكم لا سيما محكمة سيدي أمحمد ومجلس قضاء الجزائر، وتحديداً في قضية محاكمة كريم طابو، التي فضحت تدخلات بوعزة في شؤون القضاء، وزاده كذلك بيان نقابة القضاة الأخير الذي دعا تبون صراحة للتدخل". ويشير إلى بيان نقابة القضاة الذي أصدرته قبل أسبوعين، والذي طالبت فيه تبون بالتدخل وممارسة صلاحياته الدستورية واتخاذ كافة التدابير لوضع حد لما وصفتها بـ"حالة الفوضى والتجاوزات التي شهدتها ساحة القضاء أخيراً، حفاظاً على ما تبقّى من مصداقيته وطنياً ودولياً مع محاسبة كل المسؤولين عن ذلك"، وهددت النقابة بكشف التجاوزات التي يتعرض لها القضاة في الجزائر.

ويعتقد ايوانوغان أن الرئيس الجزائري ورث هندسة أمنية تضمّنت بعض الأخطاء التي رافقت مرحلة إدارة الجيش والجهاز للبلاد قبل انتخابات ديسمبر الماضي، مضيفاً أن "قائد الجيش الراحل أحمد قايد صالح ارتكب أخطاء كثيرة لا بد من تصحيحها إن لم يفت الأوان، منها تعيين واسيني بوعزة في إبريل/نيسان 2019 أي بعد انطلاق الثورة الشعبية، من دون أن تكون له أي علاقة بجهاز المخابرات وهو لا ينتمي إلى المؤسسة الأمنية، وكان ذلك أحد هذه الأخطاء، ونتجت منه تداعيات كما يتردد في أوساط العارفين بالشأن الداخلي لهذا الجهاز، وقناعتي في بلد قائم على المخابرات كعمود فقري للنظام أن التغييرات التي تحدث في الجهاز ينتج منها اهتزاز في البلاد".


لكن قراءات أخرى تربط بين إقالة بوعزة ومحاولته الالتفاف والتدخّل في الانتخابات الرئاسية وتوجيهها لصالح مرشح محدد، هو مرشح حزب السلطة عز الدين ميهوبي، والتي جرى الحديث عنها بقوة يوم الانتخابات، والعمل على إقصاء تبون من السباق الرئاسي، حتى لو اقتضى الأمر الذهاب إلى الدور الثاني بين عز الدين ميهوبي والمرشح الإسلامي عبد القادر بن قرينة. ويذهب الباحث المهتم بالشؤون السياسية والأمنية مصطفى غديري إلى أن "الإقالة كانت متوقعة بالنظر إلى ما راج قبل وأثناء وبعد الانتخابات الرئاسية، لكنها جاءت بطريقة منظمة ومحترمة لجهة التوقيت وتحفظ التكتم على الداخل العسكري"، مضيفاً: "إذا عدنا قليلاً للوراء سنتذكر ذلك الضغط الذي صاحب الانتخابات وكيف راجت الشائعات بأن أطرافاً قوية في المؤسسة العسكرية تحاول دعم ميهوبي على حساب باقي المرشحين، وقد رافق تلك الشائعات انسياق بعض القنوات الإعلامية في حملة ضد تبون". ويربط غديري بين تزامن إقالة بوعزة الذي لن يُستدعى إلى مهام أخرى، وتعيين قايدي مديراً لدائرة الاستعمال والتحضير، ضمن سياق "ترتيب البيت الداخلي لإغلاق الماضي القريب والتحضير لمرحلة جديدة"، مضيفاً: "يُفهم من بيان الإقالة أن الجيش والرئيس في انسجام تام وأن تبون يتابع عمل الأجهزة الأمنية وله القدرة على إجراء التغيير كلما تطلّب الظرف، خصوصاً إذا اعتبرنا أن أزمة كورونا تمثل فشلاً أمنياً داخلياً في إدارة الأزمة الصحية، إذ تأخرت إدارة الأمن الداخلي في تقييم الوضع الصحي في منطقة البليدة، وهي قلب المنطقة العسكرية الأولى التي تضم العاصمة أيضاً".

عدا البحث في خلفيات إقالة قائد جهاز الأمن الداخلي، وكذلك تعيين مدير جديد لمديرية التحضير والعمليات في الجيش، يظهر تبون في موقع إعادة هندسة تدريجية لموقع الجيش والمؤسسة الأمنية في النظام السياسي، ويسعى إلى الحد تدريجياً من أي تأثير له على مشروعه السياسي وخطته للإصلاح الدستوري، خصوصاً أنه أعلن عن جملة من الالتزامات والتعهدات السياسية أمام الجزائريين، وحصل على دعم بعض القوى والشخصيات السياسية الفاعلة والمؤثرة في حقل المعارضة والحراك، وعلى وجه التحديد إنهاء أزمة الحريات والقطيعة مع الممارسات البوليسية خارج قانون وتحييد القضاء وتحرير الممارسة السياسية. ويعتبر الباحث الجامعي المطلع على ملف وبنية المؤسسة العسكرية والأمنية، بلال كوردي، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أنه "بعد وفاة قايد صالح بدت اللحظة سانحة لتبون لتحويل المشهد لصالحه ونقض صفقة التعيين وإرجاع القوة إلى كفة الرئاسة، مدفوعاً بكم المعلومات التي تثبت عدم تجانس بين صنّاع قرار المؤسسة العسكرية، ومستفيداً من وضع قائد الجيش الجديد بالنيابة اللواء سعيد شنقريحة، والذي كان بعيداً تماماً عن دهاليز القرار العسكري لمدة طويلة، إذ قضى الرجل على الأقل 13 عاماً الأخيرة في الناحية العسكرية الثالثة (في الصحراء)، ولا يُعرف عنه دهاء أو رغبة له في الصراع السياسي، وظهر ذلك جلياً في عدم تسميته عضواً في الحكومة، وعدم تعيينه قائداً للأركان (ما زال قائداً بالنيابة)، ثم تدخّل تبون بمخصصات وميزانية الدفاع أخيراً".

ويلمح كوردي إلى بداية مبكرة لصراع سلطة بين الرئاسة وقيادة الأركان، وهو صراع "من يستحوذ ويستميل فيه جهاز المخابرات ستكون له كلمة الفصل فيه"، مضيفاً أن "جهاز المخابرات يعيش حالة تيه بعد تشرذم الصف الأول الموالي للقائد السابق الجنرال محمد مدين المسجون، على الرغم من أن الجهاز من حيث الهيكل لا يزال عتيداً بحكم استقلاله التنظيمي الكامل وكذلك حجم سلطاته الكبيرة المتغولة والمتسللة في كل القطاعات المدنية والعسكرية والمتحالفة سابقاً مع الأوليغارشية المالية".

ويضم جهاز المخابرات الجزائرية ثلاثة قطاعات مركزية، هي المديرية المركزية لمصالح أمن الجيش، وهي الأكبر وتضم ست مديريات فرعية تابعة لها موزعة على المناطق العسكرية الست، ومديرية الأمن الداخلي وهي الأكثر أهمية، وتختص بالعمل الاستخباراتي داخل البلاد والمراقبة الأمنية والسياسية وتتبّع الإعلام وإدارة الحرب الإلكترونية، ومديرية الأمن الخارجي وتختص بمكافحة التجسس والعمليات في الخارج، إضافة إلى مديرية فرعية تسمى المصالح التقنية. وتمت إعادة هيكلة الجهاز مباشرة بعد إقالة القائد السابق له الفريق محمد مدين في سبتمبر/أيلول 2015، وخلفه كمنسق عام الجنرال بشير طرطاق، الموقوف في السجن في قضية التآمر على الدولة. وفي بداية عام 2016، قرر بوتفليقة نقل تبعية جهاز المخابرات من الجيش إلى الرئاسة، لكن قايد صالح قرر في إبريل/نيسان 2019، وبعد اندلاع تظاهرات الحراك الشعبي وعزل بوتفليقة إعادة نقل تبعية جهاز المخابرات من الرئاسة إلى قيادة الأركان.