إعلانات "سوبر بول": ثواني الأحلام شديدة الغلاء

إعلانات "سوبر بول": ثواني الأحلام شديدة الغلاء

06 فبراير 2019
معظم الإعلانات تروّج لسلع يومية عادية (Getty)
+ الخط -
وصل ثمن 30 ثانيّة لبث إعلان على الهواء مباشرة أثناء لعبة "سوبر بول"، المباراة النهائيّة لدوري كرة القدم الأميركيّة، إلى 2.3 مليون دولار عام 2002. لكن اليوم، في 2019، ثمن الثلاثين ثانية هو 5.2 ملايين دولار. هذه الثواني المكلفة، شاهد محتواها منذ بضعة أيام لأولّ مرّة أكثر من مائة مليون أميركيّ، متسمّرين أمام الشاشة لمدة أربع ساعات لمتابعة المباراة، التي انتصر فيها الباتريوتس من نيو إنغلاند على رامس من لوس أنجليس، بنتيجة 13 مقابل 3. 

لا يهم من المنتصر حقيقة، فبعد انتهاء المباراة يوم الأحد، سيستيقظ المشاهد من بيته صباح الإثنين للعودة إلى عمله، لكن المهم، أنه خلال ساعات اللعب، هناك 30 دقيقة استراحة للاعبين، تتحول أثناءها أرض الملعب إلى مساحة استعراض غنائي، أحيته هذا العام فرقة Maroon 5، وهناك أيضاً ما يقارب 45 دقيقة من الإعلانات، الموزعة ضمن الاستراحات وقبل وبعد اللعبة، والتي تتفاوت أطوالها بين ثلاثين ثانيّة إلى الدقيقتين، ليكون عددها الكليّ هذا العام 51 إعلاناً، يختلف ثمن الواحد منها أيضاً حسب الطول، وزمن العرض، وموضعه ضمن الساعات الأربع، ولاختزال هذه الأرقام، كسبت شبكة CBS التي تمتلك حقوق البث، ما يقارب 382 مليون دولار من الإعلانات، في حين أن اتحاد كرة القدم الأميركي كسب ما يقارب 25 مليار دولار.

كميات الأموال الهائلة والأرقام السابقة تبدو أحياناً لا منطقيّة، خصوصاً أن الإعلانات تروّج لسلع يوميّة، نشتريها من دون أن نفكر في ثمنها في كثير من الأحيان، كرقائق البطاطا والمشروبات الغازيّة، وأحياناً لا تروج الإعلانات لسلع، بل لخدمات نحصل عليها بالأصل مجاناً، كحالة إعلانات غوغل. إذن لمَ الإعلان؟ ولمَ كل هذا الغلاء؟

يمكن تفسير ذلك بالقول إن الإعلان واحد من أشد أعراض الرأسماليّة هيمنة، والمُتربع على قمة مجتمع الاستعراض، وبسببه يعاد ترتيب إيقاع العالم في يوم العطلة، الذي يتابع فيه "الجميع" اللعبة، للتسليّة وتمضية الوقت، لكن ضمن هذه الثواني المكثفة، التي يتداخل فيها المزاح والتسليّة والمنتج التجاري مع نجوم السينما والموسيقى والرياضة، يظهر وعد السعادة، أو الوعد بالأفضل، ذاك الشكل المثاليّ المطابق للإعلان والمخالف للواقع، والذي يتحول إثره "المشاهد" إلى مُستهلك مثالي، لا خيار أمامه سوى المشاهدة والانصياع الكليّ لما يراه.

المزيج السابق يجعل الإعلان الذي لا ينتمي إلى اللعبة، جزءاً من تجربة مشاهدتها، بل إن بعضهم يقول إن زمن اللعب الحقيقي يتضاءل أمام زمن الإعلان، لكن هذا ليس دقيقاً، فحتى "اللعب" نفسه، واستعراض المهارة الجسديّة والرياضية أثناء وقت اللعب، أيضاً إعلانيّ؛ ماركات وشعارات في كلّ مكان، فالإعلانات تتدفق مرئيّة في كل ثانيّة وفي كل زاوية من زوايا الشاشة. كل هذا، كي نشتري منتج عوضاً عن آخر.

لا ننفي أهمية الإعلان، ولا الحقّ به، ولا حتى القيمة الفنيّة التي تحويها الإعلانات بوصفها فناً منفصلاً يوظّف كافة الفنون الأخرى، لكن خطورة الإعلان تكمن في أنه مصمم لهدف واحد فقط، "اشتر"، تسلّ الآن واضحك حين تشاهد نجمك المفضل، لكن لاحقاً، يوم الإثنين حين يبدأ الأسبوع.
"اشتر"، هذه مشاهدٌ من لعبة العروش، مسلسلك المفضل. "اشتر"، إن لم تستطع الآن، بعد قليل، لكن لا تنس، أن تشتري، أو اشترك الآن، واستخدم خدماتنا الآن، ها هم أشخاص عاديون مثلك، يسافرون ويتنقلون في أنحاء العالم، ويستخدمون مترجم غوغل، قلّدهم، افعل ما يفعلونه، حينها، ستكون أسعد.

كل ما نشاهده أثناء وقت اللعب وخارجه، عليه علامة تجاريّة، وكأننا أمام "ديزني لاند"، كل ما فيها مصمم ليكون "سعيداً" و"مرحاً" من أن أجل ينقل لنا هذا "الإيمان". وفي حالة الإعلان، كل ما نشاهده، مُصممٌ ومعروض ومُحاك ومُقاس بدقة، كي نشتري، أو على الأقل، كي نعلم أن احتمال الشراء قائم، أما من نراهم، فهم يؤدّون وفق نصّ مضبوط وأسلوب منساب ومبنيّ بدقة من أجلنا، نحن المشاهدين في بيوتنا.

أشهر الشركات التي أعلنت هذا العام والتي تعتبر إعلاناتها تقليداً في "سوبر بول"، هي شركة "بدوايزر" للبيرة التي لا تحثنا بصورة مباشرة على شراء البيرة، في إعلانها ذي الـ 45 ثانيّة، بل نرى أنفسنا نستمع إلى بوب ديلان، الحائز على جائزة نوبل للأدب، يغني أشهر كلماته ويقول لنا إن "الجواب تحمله الرياح"، ليخبرنا الإعلان أن مصانع "بدوايزر" أصبحت تستخدم طاقة الرياح لتشغيل مصانعها. كذلك نشاهد إعلان شركة "دوريتوس" لرقائق البطاطا، التي أعادت إنتاج أغنية فرقة "باك ستريت بويز" الشهيرة "I Want It That Way" وقدمتها بنسخة هيب هوب، فكل الموسيقى تصلح لأن تكون إعلاناً، مهما كانت، فالإعلان لا يعرف الحدود، لا راقٍ ولا مبتذل فيه، هو واحد من أشد تجليات العصر جماليّة، فالقيم الفنيّة تتلاشى ضمن إطاره على حساب الجماهيريّة، وكل عناصره موجهة ومكثفة لأجلك، أنت المشاهد، أمام شاشتك، من تمتلك جهاز تحكم لتغير القناة، انتظر، فالإعلان مسلّ وممتع كما وعدناك من قبل، وهناك شخص تحبّه يريد أن يخاطبك، هاريسون فورد، في إعلان لشركة "أمازون"، ومُنتجها "أليكسا" التي من المفترض أن توجد في كلّ مكان، في فرشاة الأسنان وفي الجاكوزي، ستلبي طلباتك مهما كانت، وأينما كنت، يكفي فقط أن "تنطق" بما تريد، لكن انتظر مرة أخرى، نعلم أنها مليئة بالأخطاء، التي قد تؤدي حرفياً إلى التلاعب بالكوكب وإغراقه في الظلام، لكن لا تخف، فهاريسون فورد لا مشكلة لديه.

هي مجرد عيوب بسيطة، لا بد أن نعالجها لاحقاً، كن كهاريسون واحتمل أخطاءنا، وانس أن موظفينا في شركة "أمازون" محرومون من النوم، ولا يقضون حاجتهم، ويبكون أثناء العمل على مكاتبهم، انس ذلك، فنحن سنلبّي حتى طلبات كلبك.

نرى ضمن الإعلانات "غوغل" مرة أخرى، مراهناً على قربه من الناس ومشاكلهم، إذ يخبرنا كيف طور خوارزميّة تساعد المحاربين القدامى على إيجاد عمل، هناك تكنولوجيا تغزو كل شيء، و"غوغل" هو جواب لكل سؤال، وإن قصرت "أليكسا"، فما علينا سوى أن نسأل "غوغل"، مهما كنا نفعل، حتى ونحن نشاهد الإعلان، وأنا أكتب هذا المقال، لا غنى عن "غوغل" الذي أُهملُ عادة نتائجه غير الجديّة، وألجأ مثلاً إلى صحيفة "واشنطن بوست"، شديدة الحرفيّة، التي أيضاً نرى إعلاناً لها، بصوت توم هانكس، الذي لعب دور محرر في "واشنطن بوست" في فيلم عام 2017، ويخبرنا بصوته عن أهميّة الصحافة، خصوصاً في ظل رئاسة دونالد ترامب الذي يشكك في هذه المهنة من أساسها، إلا أن الصحيفة العريقة ستخوض معركته وتنتصر للحقيقة، و"تعلن" عن نفسها وعن مصداقيتها، فالكلّ نهاية يعلب ضمن الثواني المأجورة والمعدودة.

يتربع الإعلان على قمة الأشكال الثقافيّة الاستهلاكيّة، هو أشبه بحبّة فياغرا، مخصصة لهدف واحد، وتعدك بالمتعة، والتسليّة، وقدرة لا نهائيّة على تجاوز الطبيعيّ الممل، فالإعلان يقدّم صورة لمّاعة، ينفي الجديّ والمشين في بعض الأحيان، ويستبدله باللعب والجمال والإتقان، يبتلع نقّاده ويجعلهم من المدافعين عنه، ومن أفضل من ملك الإعلان، أندي وارهول، للإعلان عن منتج ما، إذ نراه في إعلان "برغر كينغ"، أيضاً ملك الوجبات السريعة، إذ قامت الشركة باقتطاع المشهد من فيلم وثائقي هولندي، وعرضه كما هو، وفيه لا يتحدث وارهول، يقول كلمة واحدة فقط "إنها لا تخرج" في إشارة للكاتشب العالق بالقنينة، لينتهي الإعلان بكلمة "#كلّ_كأندي".

يشبه الإعلان حكاية ما قبل النوم، ورديّ، جميل، يعد كل مشاهد على حدة بتغيير ما، وبسعادة من نوع ما، وبأمل يعلم المشاهد أنه موجود لكن صعب التحقيق، ولو لم يذكر الإعلان ذلك، كحكاية سندريلا، التي نعلم منذ بدايتها أنها ستتجوز الأمير، وأنها الوحيدة التي سيتسع الحذاء لقدمها، فالإعلان يعدنا بأن المنتج الذي سنشتريه سيحسن حياتنا شخصياً، كل واحد منّا على حدة، لكن، ليس للحد الأقصى كما نرى على الشاشة، فهناك دوماً نقص، وعدم اكتمال تراجيدي في تكويننا كبشر، يراهن عليه الإعلان، ويلمّع كل ما حوله، من دون أن يذكره.

المساهمون