إعلام دولة أحمد موسى وخديعة احترام القانون

إعلام دولة أحمد موسى وخديعة احترام القانون

23 اغسطس 2018
+ الخط -
المذيع المصري أحمد موسى أحد اشدّ المعادين لثورة يناير، وأبرز أذرع إعلام نظام عبد الفتاح السيسي، وهو نموذج لإعلام النظام الذي يسير بأوامر سلطوية، وغالبا ما يفرض على البرامج والمذيعين موضوعات الحلقات، والخطاب الذي سيبثّ على الشاشات. لم يعد ذلك تخمينات أو أسرارا، أعلنت السلطة، في خطابات رسمية عبر ممثليها، عن ذلك. تم تكييف الإعلام وتأميمه، بداية من الصحف إلى القنوات وصولا إلى وسائل التواصل الاجتماعي، والتي صُدّق أخيرا على قانونٍ يضبطها ويحاسب المعارضين في ساحتها، لا غرابة أن تجد التبريرات المتكرّرة نفسها في كل وسائل الإعلام، المرئية والمقروءة، بل على ساحات التواصل الاجتماعي، والتي خصّصت لها كتائب تردّ على أي آراء أو كتابات معارضة، كتائب ومؤسسات، مدعومة ليس من قوى مصرية وحسب، ولكن من مجموعات مصالح إقليمية، تموّل مشاريع ومنصات إلكترونية وصحفا ومراكز دراسات لترويج ما تريد، لأن معركة هزيمة الثورة المصرية، وتصفية كوادرها، وطمس معالمها لم تعد مهمة محلية فحسب، وإنما تجد خطاب معادة الديمقراطية والحريات وتأييد الإجراءات الاستبدادية وسياسات التقشف في مصر مؤيدا من خارجها أيضا.
يقف على رأس قناة "صدى البلد" أحمد موسى، المعروف بمعاداته الثورة وتأييد عبد الفتاح السيسي بشدّة. ينتمي هو وآخرون إلى معسكرٍ يمثل مجموعات مصالح من رجال القضاء 
والأمن ورجال الأعمال ونخب رياضية وفنية، يتحرّكون فرقة واحدة، ويحملون الخطاب نفسه، وتجمعهم المناسبات والجلسات والتوجهات، ويرتبطون، في الوقت نفسه، بعلاقات إقليمية مع دولٍ تدعم الثورة المضادة بقوة، يعادون الديمقراطية والحريات، ويمتلكون كراهية غير محدودة للحركة الشبابية والاجتماعية، ولحركة حقوق الإنسان.
في المرحلة الانتقالية بعد ثورة يناير، كانت تلك المجموعات تلتقي، وترتب كيفيات تفتيت صفوف الثورة وتفريٌها، واستيعاب بعضها إن أمكن. كانت نخب الإعلام، مع أغلب رجال الأعمال، تلعب دورا مهما، وتنسق فيما بينها، خصوصا التي حظيت بتمويل ضخم وسخي من عدة أطراف. وكانت إحدى نقاط ضعف الثورة أن أهدافها ومكتسباتها لم تؤطر في نصوص قانونية، أو في دستور يحميها، وقوة سياسية تحفظ أهدافها، وتعمل على تطبيقها. وبعد حالة الإجهاد الثوري والتخبط والتفتت، عادت ترسانة القوانين القديمة والاستبدادية لتحكم الحركة الاجتماعية والحركة السياسية. هنا تجدد واتسع الدفاع المستميت عن فكرة سيادة القانون. لم يكن التراث التشريعي الاستبدادي منذ الاحتلال الإنكليزي كافيا من وجهة نظر السلطة، فأوجدت السلطات المتعاقبة تشريعاتٍ مضافةً إلى هذا التراث المقيد للحريات، لتجدّد العهد بالاستبداد. في هذه اللحظة، كانت رموز الثورة المضادة تتمترس خلف "احترام القضاء والقانون"، فتجد أحمد موسى ومرتضى منصور واحمد الزند وغيرهم يرفعون هذا الشعار بشكل متكرّر.
ظهر موسى أخيرا في فيديو بثته قناة صدى البلد، تتضح فيه كمية الترتيبات المعدّة للتصوير، من كاميرات خارجية وداخلية، واستعدادات مسبقة لاستقباله في المحكمة الدستورية، برئاسة المستشار حنفي جبالي الذي عينه السيسى أخيرا رئيسا للمحكمة الدستورية. كان المشهد لافتا، استقبال رسمي لإعلامي وصحفي متواضع القدرات، لكنه يمثل كتلة من مجموعات المصالح. ويبدو أنه أصبح يتمتع بنفوذ ضخم. مشهد سينمائي بامتياز، كاميرا رئيسية تتابع خطوات أحمد موسى في طريقة إلى المحكمة الدستورية، مرورا باستقباله من رجال الأمن والقضاء، وصولا إلى مكتب رئيس المحكمة. هنا ينتهي المشهد، ليبدأ الحوار ويتناول فكرة استقلال القضاء واحترام القانون، ويبدأ موسى الحديث عن حكم الدستورية العليا ببطلان كل الأحكام القضائية بخصوص اتفاقية ترسيم الحدود بين مصر والسعودية، ليدعم الحكم الذي صدر برئاسة رئيس المحكمة الدستورية، حنفي جبالي، تنازل مصر للسعودية عن جزيرتي تيران وصنافير. ولأن الشيء بالشيء يُذكر، فانه لم يفوت السفير السعودي بالقاهرة تهنئته رئيس المحكمة بمنصبه الجديد، بعدها ذهب موسى إلى السعودية لأداء فريضة الحج.
حين صدر حكم الدستورية العليا الذي يدعم "سعودية الجزيرتين"، رفع الإعلاميون المتسعودون شعار "احترام وسيادة القانون" و"استقلال القضاء الشامخ"، بينما حين صدر حكم بمصرية جزيرتي تيران وصنافير من القضاء الإداري، كان الهمز واللمز قد بدأ ضد المستشار يحيى دكروري، النائب الأول لرئيس مجلس الدولة الذي أصدر الحكم، ولم ينته الأمر بذلك، وإنما عاقبته السلطة، وحرمته من تولي منصب رئيس محكمة مجلس الدولة، حين تم تشريع قانون جديد، يكفل لرئيس الجمهورية التدخل في تعيين رؤساء الهيئات القضائية (القانون 13 لسنة 2017 ).
هنا تبرز إشكالية تحصّن قوى الاستبداد بفكرة الدفاع عن سيادة القانون، بوصفه أداة قمع وتقنين لأوضاع ظالمة، تتنافى مع فكرة المساواة والعدالة والعمومية، يدافعون عنها، وهي نتاج أوضاع طبقية مختلّة، تساهم في استدامة التمييز وتطبيق سياسات الإفقار، الطبقة المهيمنة سياسيا واجتماعيا وثقافيا هنا تشرّع لنفسها ولمصالحها في غيبة تمثيل حقيقي للشعب. وهي قوانينهم التي تتصف بـ "خصوصية"، على عكس منطق وفلسفة القوانين "العمومية" التي يكتبها الشعب عبر ممثليه، لكن الشعب الذي يُحجب عن التشريع والتعبير، حتى عن مواقفه وآلامه وآرائه، يُراد له أن يقتنع بسيادة قوانينهم "الخصوصية". لذا تدافع الأبواق الإعلامية للسلطة هنا عن القانون، وتعظم من سلطة القضاء، وتمنع أي انتقاد أو مساس لها، وتهاجم من ينتقدها بشراسة وعنف.
يحمل ترسيخ فكرة احترام القانون بشكل مطلق، حتى من المعارضين، قدرا من الزيف، يخرج عليك الإصلاحيون ليقولوا لك احترم قانون التظاهر، حتى يتم إسقاطه.
كانت الثورة وما زالت فعلا خارج سياق القانون والدستور. لذا، حين يتم التأكيد في حالات الصراع السياسي على احترام القانون، يُفهم بأي غرض يتكرّر هذا الخطاب. وهنا ليس غريبا أن يكون أكثر المعادين للثورة هم أكثر المتمسّكين بالدفاع عن سلطة قوانين الطبقة المهيمنة، لأنها ببساطة قوانينهم القمعية والسلطوية في جانبها السياسي، أو قوانين وسياسات النهب والجباية في الجانب الاقتصادي. هي أدوات للحكم ولاستمرار مصالح هذه الطبقة والمستفيدين منها، وتتماسّ هذه المصالح المتبادلة مع علاقات النظام ومجموعات المصالح التي يمثلها على المستوى الإقليمي.
يركّز التراث النظري الغربي على فكرة حكم القانون، بوصفه أداة للديمقراطية والمساواة، لكن ذلك مرهون بقدرة الناس على التشريع لأنفسهم، واستقلال القضاء وتوفر الحريات. وحكم
 القانون بالتأكيد هو شرط للديمقراطية، لكن سيادة القانون وتطبيقه ليسا مؤشرا على الديمقراطية، في مجتمعاتنا التي تسيطر فيها النظم على أجهزة الإعلام والتشريع والأمن. ولا يؤشر تطبيق القانون، بمعزلٍ عن الناس هنا، إلى ملمح ديمقراطي، لأن أغلب التشريعات في بلادنا ما زالت تمثيلا للطبقة السياسية والاجتماعية المهيمنة، وأدوات للضبط، وتشريعا للنهب، وتحليلا وتجميلا للاستبداد، وليست قوانين للشعب، هو يكتبها ويقنن بها أوضاعه، ويسير بها شوونه.
قال رئيس الحكومة البريطانية السابق، ديفيد كاميرون، عام 2008 إن حكم القانون وسيادته في بريطانيا، وفي أوروبا عموما، هما في "مواجهة حكم الشرطة السرية". أما في بلادنا، فإن القانون يمكّن الشرطة والأجهزة الأمنية من استخدام القمع، ويمكّن رجال ومجموعات المصالح من النهب باسم القانون. وإذا توفرت في دولنا العربية نصوص قانونية، تتصف بالنزاهة والعدالة والمساواة وإقرار الحقوق، لا يجد تطبيقها طريقا له، ويصبح القانون أداة. والانتقاء في التطبيق منهج طالما بقي حكم النظم المستبدة.
هؤلاء ومن يساندهم ويكرّرون شعارات حكم القانون وسيادته تنطبق عليهم عبارة إيمانويل كانط "لا يناصرون الحق، بل يؤيدون القوة، ويتكلمون بلهجتها كأنها سوّغت لهم الإمرة على الناس". إنهم يروجون وهم الدفاع عن سيادة القانون، بينما يدافعون عن مصالحهم وقوانينهم. وإذا كانت المسالة تتعلق بسيادة القانون والدستور، فأين كل ما يدعم الحقوق والحريات وحق الشعوب في حياة كريمة في القوانين والدساتير؟
D75BB17B-0520-4715-86EC-B6995DA95615
عصام شعبان

باحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية بجامعة القاهرة، أحد مؤسسي الجمعية الوطنية للتغيير، عضو المجلس الأعلى للثقافة لدورتين متتالتين، عضو شعبة العلوم الاجتماعية. أحد كتاب الرأى في صحيفة وموقع "العربي الجديد".يقول: "نفعل كما يفعل السجناء، نربي الأمل".