إعلام الفقراء: ليس بالمال وحده يحيا الإعلام

إعلام الفقراء: ليس بالمال وحده يحيا الإعلام

17 يوليو 2014
خطاب الإعلام بعيد عن أبناء الأطراف المهمّشة
+ الخط -
دخلت وسائل الإعلام إلى المجتمعات العربية منذ قرن ونصف القرن، تقريبا، عندما كانت الدول العربية إما تحت الاحتلال، أو تسيطر عليها زعامات فردية. وارتبطت المطبعة والتلفزيون والإذاعة بالسلطة، منذ دخولها هذه البلاد، وصيغت معادلة لا تزال تحكم المشهد الإعلامي، مفادها أن العلاقة بين الإعلام والمواطن العربي هي علاقة من أعلى إلى أسفل وليس من أسفل إلى أعلى. من السلطة والنفوذ والقدرة، إلى المستهلك القارئ والمستمع والمشاهد.

وتماهى كثيرون مع هذه المعادلة، من دون الالتفات إلى خطورتها، وتعالت أصوات مطالبة السلطة بلجم الإعلام، أو إصلاح حاله، وليس كف يدها وأذاها وأذى حلفائها، من ذوي المال المشبوه، عنه. رغم أنه من المفترض أن الإعلام هو صوت الناس أولاً.

من ناحية أخرى، أفرز غياب الديمقراطية في العالم العربي بعد ذلك، واحتكار الشركات الكبرى لصناعة الإعلام خرافة مفادها، أن الإعلام من دون المال مثل سفينة عاطلة في الصحراء. ولو نفع المال وحده أحدا لنفع التلفزيون المصري، الذي تعد ميزانيته أعلى ميزانية تلفزيون في العالم، بشهادة الناقد المصري سمير فريد، أو لنفع امبراطورية ميردوخ الإعلامية، التي تئن تحت ضربات فضيحة التنصت على سياسيين ومشاهير في بريطانيا. فليس بالمال وحده يحيا الإعلام، لكنه يحيا قطعا بالخيال والوعي وينتعش بالصدق والمهنية.

استبعاد المشاهد غير المستهلك

وبسبب محورية دور الثروة في زخرفة المنتج الإعلامي، أصبح الجمهور المستهدف لمعظم الوسائل الإعلامية هو من ذوي الدخل المرتفع، أي الزبائن المحتملين للمعلنين، الذين ينفقون على القنوات ويمدونها بأسباب البقاء. وأصبح سرّ النجاح ليس استقطاب شرائح أعلى من المشاهدين ببرامج راقية وجذابة، ولكن نوعية هؤلاء المشاهدين ومدى قدرة الشركات الإعلانية الوسيطة على إقناع رجال الأعمال بأهمية هذه الشريحة كزبائن لمنتجاتهم، من أجل جذب أكبر قدر ممكن من الإعلانات وتحقيق أعلى ربح.

هذه الدائرة الاستهلاكية المغلقة لم تستثنِ تيارا بعينه أو بلدا من دون آخر؛ بل دخل شيوخ الدين عبر تحويل وسيلة الإعلام المرئية، بكل ما فيها من جماليات فنية وإبداعية إلى خطاب وعظ منبري في هذه الحلقة التجارية، التي لا تعترف بالمشاهد الوفي غير القادر على التجاوب الشرائي مع السلع المعروضة تلفزيونيا.

ومع مرور الوقت، تم استبعاد المشاهد غير المستهلك من أساليب التفاعل مع المحطة، لأن التفاعل مكلف، كالرسائل النصية مثلا. ثم الأهم والأخطر، أن قضايا هذا المشاهد المسكين الاجتماعية والخدمية توارت مع الوقت لتصبح على الهامش، وإن ظهرت، فللاستهلاك السياسي أو للغوث الإنساني أوقات الكوارث. وأصبح الفقير مادة إعلامية لبعض البرامج وإعلانية لأخرى، وأصبحت لهجته المحلية مستهجنة، مثل أهل الصعيد والأرياف في مصر مثلا، ويحاول تغييرها إذا ذهب إلى العاصمة لأنها لا تليق بلهجات الكبار الذين يظهرون في هذه القنوات، الأمر الذي صنع غربة يتعرض لها الفقراء في إعلام اليوم، ولها دلالة خطيرة لأنها تعزل شرائح كبيرة في المجتمع عن السياق والفضاء العام، وترسخ لطبقية وهمية وتنشر ثقافة ضحلة تنتقص من الموروث الثقافي المحلي والشعبي الغني. وفوق هذا وذاك، تزيد من الفجوات الاجتماعية بين شرائح مختلفة. وليت هذا الشكل الاستهلاكي من الإعلام أفرز لنا تنوعا تلفزيونيا ثريا، وإنما كان التركيز على الربح المباشر والسريع.

خدعة الـ"توك شو"

وليس عجيبا في هذه الأجواء أن نجد هرولة من شركات الإنتاج والقنوات الفضائية نحو قالب تلفزيوني واحد اكتشفوه قبل سنوات، وهو ما يسمى بـ"التوك شو"، الأمر الذي أصاب المشاهد بتخمة إعلامية مسؤولة ولا شك عن أمراض تصلب شرايين الوعي، ورفع ضغط التحريض، وضيق التنفس الوطني. هذا رغم أن المائدة االتلفزيونية مليئة بأصناف وألوان من الوجبات الإعلامية مما هو ألذ قطعا من هذا النمط، ولكن من دون طاه جيد.
أين صحافة التحقيقات التلفزيونية؟ وأين صناعة الأفلام الوثائقية؟ وأين دعم الصحافة المحلية؟ ولماذا لم يظهر في مصر، المشهورة بخفة الدم، سوى برنامج سياسي ساخر خرج من رحم اليوتيوب، هو برنامج باسم يوسف؟

حاولت بعض الدول حل هذه الإشكالية من خلال تكوين مؤسسات مستقلة عن الحكومة، وممولة من الشعب مباشرة، مثل "هيئة الإذاعة البريطانية" باللغة الإنجليزية، التي لا تعرض إعلانات خلال برامجها ونشراتها نأيا بنفسها عن أية شبهة تأثير تجاري في خطها التحريري. وحتى الدول، التي تركت ماكينة الإعلام تخضع لاقتصاد السوق، لديها آليات ديمقراطية تكفل التمثيل الشعبي المتوازن في وسائل الإعلام.

تغيّر العلاقة بين المجتمع والإعلام

هذه الحالة من الفراغ في الخطاب الإعلامي الموجه للشريحة العظمى من الشعب في الأرياف ومن البسطاء -وغالبيتهم أميّون- دليل على إخفاق المنظومة الإعلامية، حكومية وخاصة، في استيعاب واحد من أهم دروس الثورات، وهي قضايا الإنسان، ذاك المظلوم، ليس سياسيا فحسب، ولكن إنسانيا واجتماعيا ومهمش ثقافيا.
إن المتمعن في حياة رواد الفن والغناء قبل عقود، ضمن جيل يطلق عليه الجيل الذهبي للفنون، يجد أنهم جميعا جاؤوا من طبقات اجتماعية متباينة، وتتجلى الخلفية القروية في نشأة كثير منهم. فحس الشجن وإحساس الفرح في صوت عبد الحليم حافظ، ليس منفصلا عن مشاعر عبد الحليم مدرس الموسيقى في الشرقية، وهو عائد من مدرسته وسط الحقول، ونبرة أم كلثوم، وهي تغني القصائد، ليست بغريبة على غناء التواشيح في أجواء القرية وجلساتها المسائية، التي يتفاعل فيها الجمهور مع المنشد بالغناء، فالفنون الشعبية تشاركية بطبيعتها وليست محصورة في نخبة بعينها.
إن مجتمع الفقراء له مفرداته وعاداته ونمطه الاستهلاكي البسيط وأغانيه الخاصة في أفراحه. وقد ظلت هذه التفاصيل حبيسة الحواري الضيقة والقرى البعيدة، رغم أنها كنز فني، وتفتقر إلى أية تغطية إعلامية حقيقية تمثلها وتستهدف هذا الجمهور العريض. فالتمثيل الحقيقي لهؤلاء إعلاميا سيتم حين تتغير معادلة العلاقة بين المجتمع والإعلام في العالم العربي، لتصبح من أسفل إلى أعلى، وربما يحتاج هذا إلى مرحلة انتقالية إعلامية موازية لمراحل التحول الديمقراطي.

*(هاني بشـر صحافي مصري مقيم في لندن)

دلالات

المساهمون