إضراب بازار طهران... مصنع السياسة والاقتصاد في إيران

إضراب بازار طهران... مصنع السياسة والاقتصاد في إيران

28 يونيو 2018
يحمل إضراب بازار طهران دلائل عدة (فاطمة بهرامي/الأناضول)
+ الخط -

لطالما كان للبازار الشعبي في إيران دور مؤثر على التحركات الاجتماعية والاقتصادية. فكما يتأثر تجاره بتغيّرات المؤشرات الاقتصادية بشكل مباشر، تستطيع تحركاتهم أن تنعكس على الفاعلين في مراكز صنع القرار وعلى الشارع، وهو ما يجعل إضراب بازار العاصمة طهران، المستمر منذ أيام، بالغ الأهمية ويحمل بين طياته دلائل عدة.

وبدأ الإضراب من منطقة أبعد من مربع البازار الشعبي، الذي يمتد على مسافة تسعة كيلومترات في مركز العاصمة، ويضم ألف محل تقريباً، فأغلق تجار سوقي علاء الدين وتشارسو للهواتف الخليوية والكهربائيات محالهم الأحد الماضي اعتراضاً على التدهور الشديد لسعر صرف العملة المحلية أمام الدولار، ليخرج تجار البازار بعدها بيوم ويعلنوا عن إغلاق محالهم احتجاجاً على تردي الوضع الاقتصادي وارتباك مؤشراته وانتقاداً لعمل الحكومة برئاسة الرئيس حسن روحاني.

وتبدو التظاهرات نتيجة مباشرة لحملة الحصار  واسعة النطاق التي تشنها واشنطن ضد طهران، بهدف معلن، تحدث عنه وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، مباشرة لدى إعلانه خطة معاقبة إيران قبل شهر، وتقوم على هدف أول ورئيسي، خنق الاقتصاد الإيراني لجعل المواطنين ينتفضون ضد نظامهم وحكومتهم، بما أن أي نية غير متوفرة لتغيير النظام من الخارج على حد اعتراف أركان إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب. وعلى ما يبدو فقد أصبح العامل الاقتصادي المحرك الرئيس للشارع في إيران. فقبل إضراب البازار في العاصمة، خرجت احتجاجات في طهران نهاية ديسمبر/كانون الأول الماضي، بعد أن احتج مدنيون في مشهد شمال شرقي البلاد على عمل مؤسسات مالية اختلست أموالهم، وانتقدوا عمل الحكومة. وتغيرت الشعارات في طهران وفي مدن ثانية من ساحة المطالب الاقتصادية الموجهة للحكومة المعتدلة إلى أخرى سياسية طاولت النظام برمته، وانتقدت سياساته الداخلية والإقليمية. وفي إبريل/نيسان الماضي خرج مواطنون في منطقة بانه الحدودية الواقعة في محافظة كردستان غربي إيران، احتجاجاً على ملف اقتصادي آخر، إذ إن إغلاق الحدود ومكافحة حركة "تجار الشنطة" تركا تبعات على الوضع المعيشي لهؤلاء، المتأثر كذلك بعوامل اقتصادية ثانية بدأت بالظهور جلياً على حياة المواطن الإيراني بشكل عام، والذي ينتظر عودة العقوبات الأميركية بعد انسحاب ترامب من الاتفاق النووي ويلمس ارتفاع الأسعار بشكل شبه يومي.




أما البازار، الذي يشكل قوة فاعلة لها علاقاتها الجيدة مع رجال الدين والتيار المحافظ، ويضم اليوم تجاراً وأصحاب رؤوس أموال محسوبين على التيارات التقليدية من الاتجاهين، المحافظ والإصلاحي، فقد كان في يوم من الأيام أحد أبرز محركات الثورة الإسلامية التي انتصرت في عام 1979، وهم من حاربهم الشاه البهلوي الداعي للحداثة والانفتاح على الغرب، فحاول القضاء على النسيج التقليدي المتمثل أساساً في البازار، وزيادة الاعتماد على الصادرات النفطية. كما قال إنه يريد محاربة الغلاء، فخصص فرقاً فرضت مخالفات باهظة وأغلقت محال التجار المتهمين برفع الأسعار. كل ذلك انعكس سلباً عليهم من الناحية الاقتصادية، لكنّه جهز أرضية لإسقاط الشاه. وفي الوقت ذاته كانت علاقات تجار البازار مع رجال الدين تتجه نحو شكلها الأمثل، فالبازار يدفع الخمس والزكاة، ويتولى تكاليف المناسبات الدينية، وكانت فئاته قادرة على تحريك الشارع والدفع نحو إضرابات واعتصامات في المساجد والخروج في تظاهرات. وكان تأثير كل هذا يصل إلى بازارات مدن ثانية، من قبيل أصفهان ومشهد وتبريز.

وفي زمن الرئيس الأسبق، محمود أحمدي نجاد، وتحديداً في يونيو/حزيران 2010، اعترض تجار البازار على تعديل قانون الضرائب، ورفضوا رفعها بالتزامن مع وضع اقتصادي متدهور في حينه أيضاً، ودخلوا في إضراب. ففي ذاك الوقت كانت نسبة التضخم الاقتصادي عالية للغاية، وكانت البلاد تدفع ثمن العقوبات الغربية عليها، وهو ما تسبب بركود وتراجع النمو الاقتصادي وارتفاع الأسعار. قد لا تكون الأمور حرفياً على هذا الحال في الوقت الراهن، ولا سيما أن روحاني وفريقه قد نجحوا بالتوصل للاتفاق النووي وإلغاء العقوبات النووية التي حققت استقراراً نسبياً لفترة، لكن تأثير البازار الذي كان قبل عقود لم يختف كلياً، فإذا ما قرر التجار أن يلعبوا دوراً للضغط على حكومة الاعتدال برعاية المحافظين والأصوليين، فستصبح الأمور أصعب على روحاني وفريقه في الفترة المقبلة. والعامل الوحيد الذي قد يوقف ذلك هو المسار الذي قد تتجه إليه هذه الاحتجاجات والشعارات التي قد يرفعها المعترضون. ومن الملاحظ أن المسؤولين من  التيارات كافة يعملون جاهدين للفصل بين مطالب التجار، التي يصفونها بالمشروعة، وبين من يرددون شعارات أخرى قد توسع دائرة المطالب لتصل إلى الخطاب السياسي المباشر من نوع تغيير السياسات الإيرانية الخارجية وضرورة انسحاب طهران من الإنفاق على ملفات سورية ولبنان وفلسطين واليمن مثلاً، وهو ما يعني تخوفاً من تصادم داخل قوى البازار نفسه.

روحاني، من جهته، حاول طمأنة الإيرانيين بالقول إنه لا داعي للقلق، فلدى حكومته القدرة على تأمين البضائع الرئيسية والعملة الصعبة اللازمة لها. وأصر على التركيز على وجود عوامل خارجية، داعياً للانسجام الداخلي بين مراكز صنع القرار. كما أن فريقه اتخذ عدة قرارات منها فتح سوق حرة ثانوية يسمح من خلالها بإجراء تبادلات بالعملة الصعبة، فضلاً عن نشر قائمة بأسماء الشركات التي تشتري بضائعها، ولا سيما الهواتف الخليوية، كواردات بسعر الدولار المحدد من قبل البنك المركزي. وطالبت وزارة الاتصالات المواطنين بالتبليغ عمن يبيعونها بأسعار أعلى، فالسوق السوداء والمحتكرون وبعض التجار يلعبون دوراً في تفاقم الأزمة.
إلا أن التحديات تأتيه في الوقت الراهن من كل مكان، فروحاني يتعرض لانتقادات المحافظين بسبب ارتكابه خطأ الثقة بالغرب الذي لم يؤد لنتائج إيجابية على الصعيد الاقتصادي رغم وجود الاتفاق النووي كما يقولون، وهو ما يجعل أصابع الاتهام تتجه نحوهم مرة ثانية. فهذا ما حصل خلال احتجاجات ديسمبر الماضي، فاتهمت الحكومة المعتدلة المحافظين بالتحريض على تحريك الشارع في منطقة مشهد. أما الإصلاحيون فيحاولون عدم البقاء على مركب واحد مع روحاني. وقد قال النائب الإصلاحي، مصطفى كواكبيان، صراحة إن الرئيس ظل صامتاً لعشرين يوماً رغم تراجع سعر الريال الإيراني أمام الدولار، ورغم لمسه للتأثيرات السلبية على الاقتصاد منذ إعلان ترامب عن قراره الانسحاب من الاتفاق، وهو ما أسفر عن تبعات كثيرة، على رأسها ارتفاع أسعار البضائع، وهذا ما يشتكي منه تجار البازار والمواطنون.

السلطة القضائية، من جهتها، وهي أحد الأطراف الفاعلة أكدت على ضرورة حل المشكلات الاقتصادية من قبل الحكومة، وهو ما طالبت به المؤسسة العسكرية كذلك. ومع ذلك قال مستشار المرشد الإيراني للشؤون العسكرية، رحيم صفوي، إن "وظيفة الجميع مساعدة الحكومة، فيجب الوقوف بوجه مخططات الأعداء لإحباط الحرب الاقتصادية والنفسية على إيران". وجاء المرشد علي خامنئي ليضع النقاط على الحروف، مطالباً القضاء بالتعامل بصرامة مع من وصفهم بمكدري الأمن الاقتصادي ومواجهة أعداء إيران ومن يحملون الشر لها، حسب تعبيره. وركز على المشكلات الاقتصادية التي تعانيها البلاد في الوقت الراهن، معتبراً أن إدارتها تقع على عاتق السلطة التنفيذية المتمثلة بالحكومة والرئاسة، كما أن السلطتين التشريعية والقضائية تلعبان دوراً مؤثراً في ذات الصدد.

كل هذا يعني أن الاتجاهات المختلفة في الداخل تدرك وجود محركات داخلية، تنطلق من وضع اقتصادي مترد، تتحمل مسؤوليته عوامل خارجية، كقرار ترامب وما ترك من تبعات على شركات أجنبية قررت الانسحاب من إيران، وأخرى داخلية ترتبط بسوء الإدارة الحكومية وبوجود سوق سوداء نشطة وبانخفاض معدلات العائدات والعملة الصعبة. كما تدرك أن كل هذا سيصبح أكثر تعقيداً إذا تحول المشهد إلى احتجاجات ذات طابع مناهض للنظام سيدعمه معادوه في الخارج كذلك، لذا أعلنت السلطة القضائية، رغم انتقاداتها للحكومة، أن أحكاماً بالإعدام وبالسجن لعشرين سنة ستصدر بحق المفسدين في الأرض والخونة والمحتكرين، كما قال رئيسها صادق آملي لاريجاني.

تخوف التيارات المنتقدة لروحاني، رغم تأييدها لاعتراض تجار البازار، يأتي من احتمال امتداد الاحتجاجات، أو تطور شعاراتها، لكنهم يراهنون على ارتباط وثيق بين البازار والمؤسسة الدينية، وهو ما قد يساعد على إبقاء الدائرة الاقتصادية منتقدة لعمل الحكومة. البرلمان، من جهته، يحضر لسيناريوهات تعتمد قوتها على انتماءات النواب فيه، فهو برلمان مختلط، يضم محافظين وإصلاحيين ومعتدلين مؤيدين للحكومة، وقد أرسل 187 نائباً من أصل 290 رسالة لروحاني طالبوه خلالها بتغيير فريقه الاقتصادي، وهناك آخرون بدأوا بالمطالبة بعزل وزير الاقتصاد ومحافظ البنك المركزي. وكان النائب أمير خجسته قد رجح أن النواب لن يعطوا فرصة تزيد عن أسبوعين لروحاني ليقدم برامجه وخططه لمواجهة ما وصفه بالحرب الاقتصادية. كما ذكر عضو الهيئة الرئاسية في البرلمان، علي أصغر يوسف نجاد، أن 50 نائباً وقعوا بالفعل على مقترح لجر وزير الاقتصاد، مسعود كرباسيان، لجلسة مساءلة، وقدموه لهذه الهيئة التي سترسله بدورها إلى اللجنة الاقتصادية لدراسته خلال أسبوع. وفي حال حصل ذلك سيصوت النواب على اقتناعهم بمبررات الوزير، وإن كانت النتيجة سلبية قد يتسبب ذلك بعزله. أما إذا سارت الأمور نحو منحى أسوأ فقد يتعرض روحاني نفسه للمساءلة.