إشكالات تنظيم الإسلام في فرنسا

إشكالات تنظيم الإسلام في فرنسا

24 فبراير 2018

الهلال في أعلى مسجد باريس الكبير (26/5/2017/فرانس برس)

+ الخط -
أعلن الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، رغبته بوضع أسس لتنظيم جديد للإسلام في فرنسا، ساعياً، مثل سابقيه من الرؤساء الفرنسيين، إلى ترك بصماته على هذا التنظيم الذي لم يكتمل بعد، ومن المحتمل ألا يكتمل، لأنه مبني على فرضيات ومنطلقات خاطئة، لا تأخذ بالحسبان الواقع. ويبدو أنه يسعى إلى تهدئة العلاقة بين الإسلام والدولة، بإقامة علاقة جديدة تحسم الإشكالات المطروحة، وتحد من تطرّف بعض المسلمين وتطرّف العلمانيين، أي بعض الفرنسيين الذين تطرفوا في علمانيتهم للهجوم على الإسلام والمسلمين، وهذا كله لتجنيب فرنسا "حرباً هوياتية".
إذا كان الهدف الاستراتيجي لماكرون بناء علاقة جديدة بين الدولة والإسلام في فرنسا، لإشراك الأخير في محاربة التطرّف في البلاد، فإن هناك قضايا إستراتيجية أخرى يريد الرئيس الفرنسي حسمها، وهي تكوين التمويل والمسؤولية (أي الذين يتولون مسؤولية الإسلام في فرنسا) وتكوين الأئمة. فهو على ما يبدو يريد بناء هيئاتٍ مسلمةٍ، وتحديد إطار للتمويل ولتكوين الأئمة.
فهو ينطلق، إذاً، من القضايا الإشكالية الأساسية التي يواجهها الإسلام في فرنسا منذ مدة طويلة. أولها التمويل. فقانون العلمانية لعام 1905 يمنع الدولة من تمويل بيوت العبادة. ومن ثم، فعلى المسلمين، كغيرهم، إيجاد مصادر تمويل، يأتي جزء منها من مساهمات المسلمين 
الفرنسيين أنفسهم، والجزء الأكبر من مصادر خارجية، وهنا المشكلة. فالتمويل الخارجي يعني النفوذ الخارجي دينياً وسياسياً نظراً للترابط بين البعدين. فالدول التي تمول بناء المساجد في فرنسا تفعل ذلك لتحقيق مآرب سياسية. هذا ما جعل بعض التيارات وبعض المساجد مرتبطة أيديولوجياً/ دينياً وسياسياً بمموليها. لذا، يسعى مشروع ماكرون لتنظيم الإسلام إلى الحد من نفوذ الدول العربية التي تتدخل في الإسلام في فرنسا/ الإسلام الفرنسي من خلال التمويل، وبالتالي تدس فيه أفكاراً ومبادئ مناقضة لمبادئ الجمهورية الفرنسية، بتشجيعها التوجهات الأكثر محافظة والأكثر تطرفاً. بالطبع، ليس هذا مجرد إدراك فقط، لأن الدول العربية التي لها نفوذ في الإسلام الفرنسي تسلطية، وبعضها على درجة عالية من التطرّف (تطرف الإسلام الرسمي)، على الرغم من إدعائها محاربة التطرّف. ومن ثم، فالعملية تحصيل حاصل، لأن الدعم القادم من المتطرّف يقود إلى التطرّف، لأن هذه المحاربة تنظر إليه قاسما مشتركا على أساسه تُمنح الهبات لبناء المساجد. ثم كيف بدول تملي حرفياً على أئمتها خطب الجمعة أن تترك لمن تمولهم لبناء المساجد في الخارج هامش الحرية.
إذا كان المشهد على هذا النحو، فكيف يمكن للدولة الفرنسية أن تتحرك في هذا المجال؟ الحقيقة أن سلوكها يعتريه تناقض كبير. فهي تعلم جيداً أن للسعودية مثلاً نفوذ في بعض أوساط الإسلام في فرنسا، بفضل تمويلها بناء المساجد (حسب أرقام أوردتها الصحافة الفرنسية فإن السعودية خصصت 3.7 ملايين يورو بين 2011 و2016 لبناء ثمانية مساجد في فرنسا)، لكن السعودية تربطها علاقات إستراتيجية مع فرنسا التي تزودها بأحدث الأسلحة التي تستخدمها في اليمن (ما أثار أخيرا نقاشاً في فرنسا). إذن، كيف لفرنسا أن تحد من نفوذ دولة داخل أراضيها، وفي الوقت نفسه تتعاون معها إستراتيجياً؟ وللدول المغاربية، وخصوصا المغرب والجزائر، هي الأخرى نفوذ في أوساط الإسلام الفرنسي. فإذا كان نفوذها المالي محدودا مقارنة بدولٍ مثل السعودية، فإنه معتبر اجتماعياً نظراً لثقل جاليتهما العددي في فرنسا. والشيء نفسه يقال عن تركيا. وبلغ صراع النفوذ أوجه في مجلس الديانة الإسلامي بين هذه الدول الثلاث، فبدل أن يكون هذا المجلس هيئة مسلمة، تمثل مسلمي فرنسا وكل ولائها للدولة الفرنسية دون غيرها، أصبح هيكلاً تتصارع فيه ولاءاتٌ للجزائر وللمغرب ولتركيا وحتى لتونس. وليس مصادفةً أن يكون أول رئيس له جزائرياً والثاني مغربياً والثالث (الرئيس الحالي) تركياً. هكذا يكتمل مثلث النفوذ الاجتماعي للدول الأجنبية في الإسلام الفرنسي.
أما إشكالية تكوين الأئمة فليست هي الأخرى هينة. فاليوم الأغلبية الساحقة للأئمة تكون في الخارج أو على يد مكونين أجانب يجهلون حيثيات الإطار الجمهوري الفرنسي وخصوصياته. وحتى لما يعلن عن مبادرات لإنشاء مراكز تكوين الأئمة في فرنسا فالدور الخارجي حاضر فيها. فمثلاً أعلن اتحاد مساجد فرنسا إنشاء معهد جديد لتكوين الأئمة في العام 2018، لكنه في واقع الحال، حسب مختص جامعي فرنسي في الإسلام في فرنسا، فرع لمعهد محمد السادس في الرباط، الممول من الدولة المغربية.. إذن، كيف سيتم تكوين الأئمة، ومن هي الهيئة التي تتولى ذلك، ووفق أي أسس؟ هل يجب استحداث معهد وطني فرنسي لتكوين الأئمة؟ لكن من يشرف عليه، وما هو دور الدولة، وماذا عن الولاءات الدينية والسياسية للخارج؟
تقودنا الإشكاليتان، الأولى والثانية، إلى إشكالية ثالثة، تخص العلاقة بين الدولة العلمانية والديانات عموماً: كيف بدولة علمانية أن تسعى إلى تنظيم ديانة؟ وهنا مكمن التناقض الآخر في العلاقة بين الدولة الفرنسية والإسلام الفرنسي/ الإسلام في فرنسا. فالدولة في هذه العلاقة طرف وقاض في الوقت نفسه. ما يعني أنها تريد صقله على الطريقة التي تشاء، وليس هذا من العلمانية بشيء، لأن الأخيرة تجعلها لا تتدخل في الأديان، كما لا تتدخل الأخيرة في الدولة.
وتقودنا الإشكالية الأخيرة إلى رابعة، وهي تمثيلية مجلس الديانة الإسلامية في فرنسا. من 
الواضح أن الأغلبية الساحقة من مسلمي فرنسا لا تعيره أهمية، وتعتبر أنه لا يمثلها أصلاً، بل يعتبره كثيرون منهم نوعاً من الإسلام الرسمي، وبالتالي فهو بالنسبة إليهم مرفوض، بالنظر إلى إدراكهم لدور الإسلام الرسمي في الدول العربية. فضلاً عن ذلك، هذا المجلس منقسم على نفسه، وتتجاذبه تيارات وولاءات متعددة، بل ومتناقضة. كما أنه منقسم، على ما يبدو، إلى قطبين متنافسين، قطب يلعب دور الإسلام الرسمي وآخر يلعب دور الإسلام السياسي. فهذه المؤسسة المنقسمة على نفسها لا تمثل إلا نفسها. وبالتالي، مهما كانت محاولات تنظيم الإسلامي الفرنسي/ الإسلامي في فرنسا، فإنها لن تحقق مبتغاها، لأنها عملياً تريد وضع مسلمي فرنسا في خاناتٍ هم يرفضونها أصلاً، لأن ما يهم الأغلبية الساحقة منهم المواطنة، وليس هيئة مسلمة، مهما كانت المسميات.
المثير للانتباه مراهنة الدولة الفرنسية على هذه الهيئات لمحاربة التطرّف الديني في أوساط المسلمين، بينما لا يعيرها المسلمون العاديون أهميةً، ولا يعترفون بها كهيئة تمثلهم، ناهيك عن المتطرّفين الذين يمقتونها، بل ربما يكفّرونها. ثم يبدو أن استراتيجيات الحكومات الفرنسية المتعاقبة في السنوات القليلة الماضية والحكومة الحالية تتعامل مع التطرّف الإسلامي، وكأن مصادره وروافده غير معولمة، كما أنها تفصل، إلى الآن، بين سياستها في محاربة التطرف محلياً وسياستها الخارجية، على الرغم من الترابط بينهما بسبب إشكالات التمويل والنفوذ والولاء.