إسطنبول: من مدينة للسياحة التركية إلى مركز للناشطين العرب

إسطنبول: من مدينة للسياحة التركية إلى مركز للناشطين العرب

02 اغسطس 2015
العرب في إسطنبول أمل في عودة قريبة إلى الديار(الأناضول)
+ الخط -
قبل سنوات قليلة جداً، لم تكن إسطنبول سوى عاصمة للسياحة التركية؛ يقصدها العرب من مختلف بلدانهم، مفضّلين إياها على المدن والعواصم الأخرى لطبيعتها الساحرة وكثرة مناطقها الأثرية والتاريخية المرتبطة بالتراث الإسلامي، وانخفاض تكاليف الإقامة فيها، وسهولة الحصول على تأشيرة لدخولها، إلا أن هذه الحضارة العثمانية التي حكمت العالم العربي لقرون طويلة، عادت مجدداً إلى خارطته السياسية عبر إيوائها المعارضين السياسيين العرب والناشطين والصحافيين الفارين من بلدانهم على خلفية أحداث الثورات العربية وما تلاها من ثورات مضادة.

وعلى الرغم من أن إسطنبول تضم جنسيات عربية مختلفة تكاد تكون من كل الدول، إلا أن البلدان التي شهدت قمعاً سياسياً واضطهاداً فكرياً واضطرابات أمنية، حازت غالبية النسبة العربية.

وأظهرت مؤشرات أعدت أخيراً من صحف تركية محلية ارتفاع نسبة العرب في إسطنبول الى مستويات قياسية مقارنة بالسنوات التي أعقبت ثورات الربيع العربي. فقد بلغ مجموع العرب الموجودين في العاصمة العثمانية مليونين و50 ألف عربي من مختلف الجنسيات من أصل 13 مليوناً و555 ألف نسمة يسكنون في إسطنبول، بما نسبته 13.7%.

يحتلّ الفلسطينيون والسوريون والعراقيون والمصريون الصدارة بين تلك الجنسيات فضلاً عن جنسيات أخرى كالليبيين واليمنيين، ومن المغرب العربي ولبنان، ويقيمون على شكل تجمعات بشرية كبيرة في ضواحي وأحياء مختلفة داخل إسطنبول وبمحيطها، ونجحوا بشكل كبير في تجاوز عقدة الحدود والانتماءات لصالح الانتماء العربي، حيث عادة ما تجد مقاهي العرب تغص بالسياسيين والناشطين والمفكرين، أو حتى أولئك البسطاء الفارين من الحروب الأهلية، والإرهاب والتهديد الجسدي، وتطغى على أغلب جلساتهم نقاشات عن أخطاء رافقت التغيير في دولهم، والمصير الذي آلت إليه ثورات الحرية العربية.

اقرأ أيضاً: القرآن يصدح في "آيا صوفيا" بعد 85 عاماً

ويطغى الشعور القومي بين العرب في إسطنبول رغم وجود نسبة لا يستهان بها من أصحاب الفكر الإسلامي المعتدل، كما ينال العرب في إسطنبول معاملة إيجابية، فهم يحصلون فيها على حرية الإقامة والتنقل والرعاية الصحية من المنظمات الدولية العاملة هناك أو تلك المحلية التي تدعمها الحكومة التركية بوجه عام.

قصص من ويلات النزوح

يقول العراقي أحمد حسين (44 عاماً)، لـ"العربي الجديد"، إنه "لن ينال معاملة في أية دولة عربية كما ينالها في إسطنبول، ليس لأن توجّه النظام فيها يميل لمساعدتنا، لكن لأن أهلها منفتحون وطيبون وجعلوا الانتماء الإنساني فوق الديني والقومي".

وفي مقهى وسط إسطنبول، يجلس بضعة شبان من جنسيات عربية مختلفة على طاولة واحدة، سرعان ما بدأ كل واحد منهم يروي قصته في بلده وطريقة فراره ووصوله لملاذه الحالي.

ويبدأ الحديث وليد خالد (36 عاماً)، الشاب فلسطيني الأصل بريطاني الجنسية، الذي وصل قبل أيام إلى إسطنبول لزيارة أقرباء له، حيث كان أكثر ما أثار انتباهه كيف تحوّلت إسطنبول إلى ملاذ لغالبية الجنسيات العربية. قال موجهاً حديثه إلى الشاب صالح الذي يجلس بجواره: ما رأيك يا صالح في هذه البداية لروايتي الأولى؟ يرد صالح بعد ارتشاف ما تبقى من فنجان القهوة: "هل ستُضمّن قصتي في روايتك يا وليد؟" يجيبه: "كيف لا يا صديقي الليبي! أنت وجميع العرب المشردين هنا في إسطنبول ستكونون أبطال روايتي".

أكثر من خمسين عربياً تعرّف إليهم وليد في زيارته لإسطنبول من دول عدة شجعته قصص هروبهم من أوطانهم على كتابة أولى رواياته، بعد أن تعرّف على كثر منهم وسمع قصصهم وبطولاتهم وكفاحهم في بلدانهم وحتى نهايتهم في إسطنبول كهاربين.

اقرأ أيضاً: ممنوع في لبنان.. مسموح في تركيا؟!

ويقول وليد لـ"العربي الجديد": "بالرغم من أن هذه المحن لم أعشها أو أمرّ بها يوماً، إلا أني أشعر بها، كون والدي، رحمه الله، رواها لي كقصته عندما هاجمت العصابات الإسرائيلية قريته، قبل نحو نصف قرن، واضطر للهجرة من أرضه فلسطين"، وتابع "سأحرص على أن تبدأ روايتي بقصة الشاب المسيحي الذي فر من الموصل بعد هجوم تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) عليهم، فلسان الضاد يجمعنا وكلّنا في الهمّ شرقُ".

يواصل وليد قراءة بعض ما كتبه على مسامع صديقه صالح، وهما يجلسان داخل مقهى شعبي صغير قرب مسجد الفاتح: "كنت أحلم بزيارة البلدان العربية، فقد ولدت بريطانيّاً، لكنّ والداي علّماني حب وطني الحبيس، وحب جميع بلدان العرب، فصارت زيارتي لتلك البقاع كل ما أتمناه في حياتي، لكني اليوم التقيت بجميع الدول العربية في إسطنبول وأشعر أن بلادي العربية كلها خائفة متعبة مرهقة، تبحث عن زاوية في مكان ما تأمن فيه من شر محدق بها".

لم تعد أم الدنيا

في العربة الثانية من مترو الأنفاق المنطلق من محطة "ياني كابي" وسط إسطنبول باتجاه "محطة "عثمان بيه"، لم يستطع فتحي، الهارب تواً من عاصمة المُعِزّ، أن يكتم شعوره؛ النظام والنظافة واحترام الآخرين والأمان أشياء يفتقدها في أم الدنيا، حتى ضجر صديقه الذي سبقه بالهروب منذ نحو عام قائلاً: "سد فمك وكف عن الكلام، ما هي مصر أم الدنيا"، رد عليه فتحي: "يا سيدي أم الدنيا مافيهاش متر واحد يحسسني بالأمان، أصحابي كلهم صاروا بين هارب ومحبوس".

اقرأ أيضاً: "القفز بالمظلّة" هواية سبعينيّ تركيّ

يمر مترو الأنفاق في طريق سيره بمنطقة "ترازيدير" المكتظة بالمساكن الشعبية القديمة شبه المتهالكة، كثير من سكان هذا الحي غادروه بسبب ذلك الضجيج المزعج الذي يصدره سير المترو، لكنه ما زال مكتظاً بالبسطاء، بسبب رخص أسعار إيجار بيوته.

عارف الجميلي، أحب "ترازيدير" ومسكنه المتواضع فيه، هو لا يأبه لصوت المترو، إنه كهديل الحمام حين يقارنه بأصوات المفخخات وأزيز رصاص المليشيات الذي حطم رأس عمر، أكبر أولاده، فأجبره على الهرب من بغداد والنجاة بأسرته.

وبرغم نجاتهم من القتل وشعورهم بالأمان في إسطنبول، لكن النحيب كان رفيق عبد الله الحميدي وأسرته، وهم يعيشون أول عيد لهم خارج صنعاء، فالعادة جرت أن يجتمع الأقارب كلهم في بيت الأسرة الكبير، الذي نشأوا وترعرعوا فيه، في أول أيام العيد.

هو ذلك الحنين إلى الأهل والوطن الذي فك حبس دموعهم، حين سمعوا في الطرف الآخر من الهاتف صوت أقاربهم في اليمن، وهم يمطرونهم بسيل من تهاني العيد مصحوبة بنشيج ودموع.
ربتت الأم على كتف ولدها الشاب نزار، وراحت تحدثه وهي تنظر إليه بعين ملؤها الشفقة: "ربنا موجود، ومثلما أنقذنا من موت البراميل المتفجرة، حتماً سيعينك في إيجاد فرصة عمل أفضل من العتالة".

اقرأ أيضاً: المطاعم اليمنية وصلت إسطنبول

الهمّ الوحيد لنزار أن يجد عملاً يسد متطلبات أسرته، دون الحاجة إلى أن يعتمدوا على مساعدات المنظمات الإنسانية، فهو ابن رجل كان ميسوراً في الشام. يقول: "ما عرفنا الذل يوماً، لكنه القصف الأعمى الذي سلب روح الأب، وشرّد الأسرة التي لم تجد ملاذاً آمناً إلا في إسطنبول".

ينفث صالح دخان سيجارته من فمه، بعد أن ملأ رئتيه منه، سائلاً وليد: أما من شيء عن الفلسطينيين تضمه إلى روايتك؟ فيجيبه: "نعم لقد وجدتهم في إسطنبول يجمعون التبرعات لغزة".

المساهمون