على الرغم من تصعيد قيادة السلطة الفلسطينية اللهجة ضد كل من الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل في أعقاب قرار الرئيس دونالد ترامب نقل سفارة بلاده من تل أبيب إلى القدس، إلا أن كل الشواهد تدلل على أن هذه الأطراف الثلاثة تكثف في الآونة الأخيرة بشكل ملحوظ من مظاهر التعاون الاقتصادي الهادف إلى تحسين الأوضاع المادية في مناطق السلطة.
ومن المفارقة أن مظاهر التعاون بين السلطة وكل من تل أبيب وواشنطن في المجال الاقتصادي قد تعاظمت تحديداً بعد الاجتماع الطارئ للمجلس المركزي الفلسطيني، الذي عقد في أعقاب قرار نقل السفارة، وهو الاجتماع الذي أوصى قيادة السلطة بإعادة النظر في اعتراف منظمة التحرير بإسرائيل واتخاذ جملة من القرارات التي كان يفترض أن تدفع إلى توتير العلاقة بين الجانبين.
ومنذ انعقاد المركزي، طرأت زيادة واضحة على عدد اللقاءات التي تجمع كبار مسؤولي السلطة والمسؤولين الإسرائيليين، بهدف بحث التعاون في مجال تدشين المشاريع الهادفة إلى تحسين الأوضاع الاقتصادية في مناطق السلطة.
وعقد رئيس حكومة السلطة، رامي الحمد الله، ووزيرة الاقتصاد في حكومته، عبير عودة، عدة لقاءات مع وزيري المالية والاقتصاد الإسرائيليين موشيه كحلون وإيلي كوهين لبحث فرص تدشين مشاريع اقتصادية في الضفة الغربية.
إلى جانب ذلك، فإن السلطة وإسرائيل تتركان لكل من وزير الشؤون المدنية في السلطة، حسين الشيخ، ومنسق شؤون الأراضي المحتلة في وزارة الحرب الإسرائيلية، بولي مردخاي، المجال لبحث القضايا التفصيلية المتعلقة بالمشاريع الاقتصادية.
لكن اللقاءات بين مسؤولي السلطة والمسؤولين الإسرائيليين لا تأتي في إطار ثنائي، بل ضمن منظومة عمل ثلاثية، تلعب إدارة ترامب الدور الرئيس فيها. فحسب ما كشفته صحيفة "غلوبس" الاقتصادية، أخيراً، فإن المشاريع الاقتصادية التي يتباحث كحلون مع ممثلي السلطة الفلسطينية بشأنها يقوم بمناقشتها أولاً مع المبعوث الأميركي للمنطقة جيسون غرينبلات، الذي أبلغ ممثلي السلطة وإسرائيل بأن الولايات المتحدة مستعدة لتجنيد الدعم المالي لتنفيذ هذه المشاريع.
ويلاحظ أن مشاركة إسرائيل في دفع المشاريع الاقتصادية في الضفة يقتصر فقط على منح الأذونات بتدشينها وتسهيل مهمة جلب المعدات اللازمة لها، ومدها بالطاقة.
وضمن المشاريع التي أسهم غرينبلات في دفعها في الضفة الغربية يتمثل في تطوير خدمات الهاتف النقال من خلال السماح لشركات الجوال الفلسطينية الاستفادة من تقنية "جي 3".
ويجاهر المسؤولون الإسرائيليون بأن أحد الأهداف التي تدفع كلاً من إسرائيل والولايات المتحدة لتشجيع تدشين المشاريع الاقتصادية في الضفة حقيقة أن مثل هذا التطور يوفر مسوغات لقيادة السلطة لعدم تحطيم القواعد العامة التي تضبط العلاقة مع تل أبيب، حتى في ظل القرارات الصعبة التي اتخذها ترامب بشأن القدس ونيته طرح "صفقة القرن".
ونقلت "غلوبس" عن وزير التعاون الإقليمي الإسرائيلي، تساحي هنغبي، قوله إنّ التعاون الأميركي الإسرائيلي مع السلطة في المجال الاقتصادي يسمح لقادة السلطة "بالنزول عن الشجرة".
ومن الواضح أن نمط العلاقة السائد حالياً بين السلطة وإسرائيل يمثل مقدمة لتجسيد فكرة السلام الاقتصادي، التي يدعو إليها اليمين الإسرائيلي، والتي تنطلق من افتراض مفاده بأن تحسين الأوضاع الاقتصادية للفلسطينيين يمكن أن يكون بديلاً عن تحقيق تسوية سياسية للصراع تضطر إسرائيل بموجبها للانسحاب من الأراضي الفلسطينية التي احتلتها في حرب 67 أو جزء منها.
فعندما تتعاون حكومة رام الله مع تل أبيب وواشنطن في تدشين المشاريع الاقتصادية على الرغم من انسداد الأفق السياسي، وفي ظل تعاون كل من إدارة ترامب وحكومة بنيامين نتنياهو وبعض القوى الإقليمية في محاولة لتمرير "صفقة القرن"، فإن هذا الواقع يعد ترجمة لفكرة "السلام الاقتصادي"، كما نظر لها نتنياهو مرات عدّة.
ومما يعزز من مركبات بيئة "السلام الاقتصادي" حقيقة أن السلطة تتجنب اتخاذ خطوات عملية لتحدي التحركات الإسرائيلية والأميركية، إذ تواصل التعاون مع الجيش والمخابرات الإسرائيلية بشكل يضمن تحسين الظروف الأمنية للمشروع الاستيطاني اليهودي في الضفة، إلى جانب عدم إقدامها على خطوات عملية لإيذاء إسرائيل بشكل جدي في المحافل الدولية، لا سيما تجنب رفع دعاوى ضد تل أبيب أمام محكمة الجنايات الدولية، بعد اتهامها بارتكاب جرائم حرب من قبل منظمات حقوقية دولية.
لكن مما يثير الإحباط حقيقة أنه على الرغم من إثارة الضجيج حول المشاريع الاقتصادية إلا أنها لم تحل دون حدوث تدهور على الأوضاع المادية في الضفة الغربية. فحسب المعطيات التي كشف عنها البنك الدولي قبل أسبوعين، فقد توقف النمو الاقتصادي في الضفة إلى جانب ارتفاع الأسعار وزيادة مستويات البطالة.