إذا تكلم الرئيس

إذا تكلم الرئيس

29 ابريل 2020
+ الخط -
يقول الكاتب الباكستاني رحيل فاروق: "لا يمكن لمئات الحكماء أن يجعلوا العالم جنة، ولكن يكفي أبله واحد لتحويله إلى جحيم". إذا كان رئيس أقوى دولة اليوم هو من ينطبق عليه القول للأسف، فكيف يمكن أن يكون مصير البشرية فيما لو ترك يحوّل أقواله إلى أفعال، أو لو كان في بلاد يكون هو الآمر الناهي فيها بقبضة من حديد ونار، وكانت أقواله تُجمع كالآيات في كتاب الحكمة أو كتب ملوّنة خضراء أو حمراء؟ هل يمكن تصوّر الجحيم الذي يمكن أن ينجزه؟
عوّد الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، العالم، منذ استلامه مهامه الرئاسية، على تغريداته الغزيرة وأقواله الجريئة حدّ الفحش أحيانًا، ولا يمكن اعتبار كل أقواله التي تبدو خاليةً من المنطق مرات عديدة، أو تلك الرامية إلى أهدافٍ كانت تبدو في ما مضى نوعًا من الجموح الذهني، لا يمكن اعتبارها كلها ضربًا من الجنون أو القفز على الزمن وحرق المراحل وترك مساحات محروقة خلفه، بل هو أحيانًا يقصد ما يقوله، ويعرف كيف يرمي رميته، ويعرف كيف يتعامل مع صدى تلك الرمية وموجاتها الارتدادية. وقد كان واضحًا منذ البداية، ولم يتخفَّ خلف إصبعه، هو رجلٌ يريد المال، ويريد الكسب بأي طريقة، والعالم بالنسبة إليه أرقام وحسابات، ومنجزه الرامي إلى تحقيقه هو أن يكسب، ولم يخفِ ذلك، بل صرّح، مرّات عديدة، بأنه يمكن أن يلعب دور الـ"بودي غارد" في أي بقعة من العالم، لكن على هذه البقعة أن تدفع، وقد صرح بذلك عندما كان يبتز السعودية ودول الخليج.
هو جريء في المضي بأفكاره إلى حيز التنفيذ، ويحاول ألا يضيع الوقت، فخلال فترته الرئاسية التي لم تنتهِ بعد، أقدم على إجراءات عديدة، كحظر السفر على مواطني دول إسلامية إلى بلاده، لكن بلادًا يقوم نظامها على فصل السلطات وعلى هيبة القانون طعنت قراراته، وسحب بلاده من مفاوضات الشراكة عبر المحيط الهادئ، ومن اتفاق باريس للمناخ، ونسف الاتفاق النووي مع إيران، وفرض رسومًا جمركية على الواردات الصينية فأجّج الصراع بين الولايات المتحدة والصين من جديد، وهو اليوم يؤججه مستغلاً الوباء العالمي، واعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل وسيادة إسرائيل على الجولان.
أما اليوم، في موجة فيروس كوفيد - 19 الذي هزّ أركان العالم، والذي أكثر ما يحتاجه العالم 
اليوم لمواجهته هو التضامن في المستويات كافة، فإنه بدأ منذ البداية شخصًا نهمًا جشعًا عنصريًا كارهًا للإنسانية، يمارس الأنانية بأعتى تجلياتها، عندما حاول شراء شركة ألمانية تعمل على إنتاج اللقاح ضد فيروس كورونا، وأن تكون بلاده المالك الحصري له، فيطبقه على شعبه أولاً، ثم يتاجر به على مستوى البشرية. ومن جديد طروحاته التي فاقت كل خيال وتصور، فكان في مؤتمره الصحافي، عندما اقترح أن يُحقن مرضى "كوفيد -19" بالمطهرات، من ديتول أو مبيّضات حاوية على الكلور، أو بالكحول، معتبرًا أنه يستخدم حقائق علمية. ولكن هل كل حقيقة علمية يمكن استخدامها في سلسلة منطقية أخرى وتوظيفها لدعم فكرة ما؟ صحيح أن هذه المعقمات تقضي على الفيروس في البيئة الخارجية، لكنها قاتلة بالنسبة إلى الكائن الحي إذا ابتلعها، وهي مواد معروفٌ أن بعض الأشخاص المقدمين على الانتحار أو قتل النفس يستخدمونها لأثرها القاتل، فكيف يمكن لشخصٍ يتبوأ هذا المنصب المفترض أن يكون ليس في أعلى قمة من الوظائف، بل في أعلى قمة من المسؤولية، أن يقترح تطبيق إجراء كهذا؟
الرجل الحاصل على جائزة أسوأ ممثل في جائزة التوتة الذهبية في العام 1991 عن مشاركته في العمل "لا يمكن للأشباح فعلها"، استطاع أن يخطف الأضواء في الواقع بما قدّم من جرأةٍ تصل إلى حدّ الفجور في تصاريحه وأقواله، فهو في الواقع لا يمثل، بل يعيش ذاته ونزوعه وطموحاته بدون مواربة أو خجل، مهما بدا عليه من جهل في بعض القضايا، وقد يكون الأمر ليس نابعًا عن جهل، إنما عن شطحات خيال تواق للسيطرة واستثمار القوة.
ولكن أميركا تُعتبر مثالاً لأكبر ديمقراطية في العالم، ليس في الممارسة وإدارة البلاد والتداول على السلطة واتخاذ القرارات، بل أيضًا كثقافة حياتية يتعلمها المواطن الأميركي منذ صغره، ويمارسها سلوكا وقيمة حياتية. والرئيس فيها ليس محصنًا ولا يسمو فوق الاتهامات والشبهات والنقد والمحاسبة، ويمكن لمواطن عادي أن ينتقده ويصرخ في وجهه فيما لو مارس سلوكًا يخرق فيه السائد والضوابط المعروفة، والأدلة راهنة عندما أقدم مجلس النواب على محاولة عزله بسبب إساءة استخدام النفوذ وعرقلة عمل الكونغرس، لكن مجلس الشيوخ أعاق المحاولة. لذلك عندما صرح بهذا التصريح الجنوني عن حقن المرضى بالمعقّمات، أو بشطحة من شطحات جعل الضوء أو الأشعة فوق البنفسجية تدخل الجسم بطريقة ما، فإن الأصوات ارتفعت من كل الشرائح المجتمعية، ومن العلماء يحذّرون الشعب من الاستماع إلى مقترحاته أو تطبيقها.
ماذا لو اقترح أحد رؤساء أو ملوك أو أمراء وسلاطين منطقتنا العربية اقتراحات مماثلة؟ من يستطيع أن يتصدّى لأقواله أو يحذّر الشعب منها؟ الحاكم بأمره بتكليف إلهي الموصى بطاعته لأنها من طاعة الإله، أقواله وخطبه تُجمع في كتاب وتدرّس للأجيال كتابا ثانيا إلى جانب الكتب المقدسة، بل ربما تفوقها رهبة بما أن حسابها حاضر وليس مؤجلاً؟ لا يعود تمكّن الديكتاتوريات في عالمنا العربي فقط إلى أسباب تتعلق بشخصية الديكتاتور الحاكم الذي يتمسّك بالحكم بأظافره 
وأنيابه ويمارس الحكم من منطلق راسخ بأنه الوحيد الذي يمتلك الصواب، ويعرف مصلحة الشعب، فلا يتقبل صوتًا غير صوته، ولا يسمح بمعارضة لحكمه، والشعب بالنسبة إليه إما معه أو ضده، ويسخّر جهازه الأمني لإحكام تلك السيطرة وتطويع الشعب إلى حدّ الإيمان به والتسليم بما يصدر عنه، وبأن انتقاده يضاهي انتقاد الذات الإلهية إن لم يكن أكثر جرمًا، بل هناك بيئة اجتماعية حاضنة أيضًا لمثل أولئك المستبدّين، فقراراتهم شبه منزلة، ويشعر كل فرد من مجموع الشعب بأن مجرّد مناقشتها أو التشكيك في صوابها أمرٌ يرقى إلى الكفر، ليس بالأديان والآلهة، بل باليقينيات التي مجرّد نقاشها يودي إلى الهلاك، وهذا أمر مشغول عليه، فالطاغية يسعى إلى تغييب وعي الشعب وتضليله بالدعاية المكرسة له التي تجعل الأجيال، مع الوقت، أكثر تجانسًا وقابلية للتطويع، وأكثر جنوحًا نحو العاطفة على حساب العقل والمنطق، وإذا كانت سمة كل السلطات، حتى الديمقراطية منها، الشغل على الدعاية، إلا أنها في الأنظمة الديمقراطية تسعى إلى أن تكون مبطنة ومستترة، لكن هناك شرائح من المختصين والمتابعين والحريصين على نزاهة المعايير ومصلحة البلاد يتصدّون لهذه الدعاية، ويتسلحون بالعلم والمنطق والحجة والبرهان. أما في الأنظمة الشمولية، فإن الدعاية تسعى إلى تجذير فكرة تقبل كل ما يصدر عن الديكتاتور عن طريق مسخ الشخصية الفردية، وزرع الشعور بالحاجة إلى القائد أو الزعيم، وحتى إذا انتفض جزء من الشعب، في لحظة ما، فإن طباع الاستبداد تنتج في الضفة الأخرى نظراء لها، وهذا ما لمسناه في الانتفاضة السورية تسع سنوات.
في موجة الوباء العالمي هذا، أكثر ما تعاني منه البشرية هو القلق الوجودي، على صعيد الأفراد والمجتمعات. وأمام هذا القلق المترافق مع انعدام اليقين حتى الآن في مجالاتٍ عديدة لسلوك 
الفيروس، فإن كل معلومة وكل فكرة ستكون إما منقذة وواقية من هلاك ما، أو مدمرة إذا ما تم التعامل معها على أنها مسؤولة، وتحمل قدرًا كافيًا من الحكمة والإنقاذ، كونها تصدر عن أولي الأمر. ولكن ما يحمي الشعوب الواقعة تحت سيطرة أنظمة قمعية في هذا المجال أن الديكتاتور نادرًا ما يلجأ إلى خطاب شعبه، فهو عادة ما يكرّس مسافة شاقولية بينه وبين الشعب تزيد من هيبته وهالة الترهيب منه، وهو من برجه العالي جدًا يراقب أسوار عرشه، ويزيد في مروحة القوانين العرفية وقوانين الطوارئ، فيتعامل مع الوباء بمنطق الحرب وحظر التجول في أوقات معينة من اليوم، وخارج تلك الأوقات يمكن للوباء أن يسرح ويمرح بين الجموع المحتشدة، من أجل تأمين رمقها كل يوم بيوم. أليست نعمةً أن الطغاة لا يخاطبون شعوبهم في أوقات الوباء؟