إذاعات مصر... من المال السعودي إلى قبضة الأجهزة

بيت الإذاعة المصرية (Getty)
22 يوليو 2020
+ الخط -

"هنا القاهرة" كانت عبارة ينتظرها الجميع عبر أثير الإذاعة من المحيط إلى الخليج، وكانت كافيةً لتزلزل المشاعر القومية والعروبية. الإذاعة المصرية التي بدأت كمحطات محلية وأهلية، أدرك قيمتها جيداً نظام الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، فكانت واحدة من أذرعه الدعائية، والسلاح القادر على حمل وبث كل رسائله، وكان مسؤولوها أذكياء في تأسيس المزيد من الإذاعات لأغراض متباينة ومتنوعة. ليصبح الراديو هو رفيق العمل والسهر لمن يرغب في معرفة الأخبار من خلال الاستماع إلى البرنامج العام، أو إذاعة "صوت العرب". ومن يرغب في البرامج والأغاني الخفيفة، عليه ضبط موجته على "الشرق الأوسط"، أما المثقفون والمهتمون بالشأن الثقافي فهم رواد البرنامج الثقافي.
تعددت المحطات وصارت هناك إذاعات إقليمية لخدمة الجماهير الممتدة على طول القُطر المصري. هناك الملايين ممن تربّوا على الإذاعة المصرية وأشهر أصواتها، وبرامجها المتنوعة والمختلفة مثل "كلمتين وبس"، و"عائلة مرزوق"، و"أبلة فضيلة"، وسهرة أم كلثوم وحليم، إضافة لأشهر البرامج ومنها "لغتنا الجميلة"، و"قال الفيلسوف"، و"أغرب القضايا"، و"من الجاني". ومن ينسى الصورة الغنائية والأوبريتات الإذاعية؟ حتى الأفلام السينمائية كانت تبث في الإذاعة مع تعليق بصوت المذيع لوصف الحركة.
كل الأنظمة التي تولت حكم مصر كانت تدرك جيداً أهمية الإذاعات، لذلك، كثيراً ما كنا نسمع جملة "موجات الإذاعة خط أحمر". ورغم ظهور القنوات التلفزيونية في مصر، إلا أن الإذاعات الخاصة ظهرت متأخرة كثيراً وبفارق زمني كبير؛ حيث كانت الجهات الأمنية وأجهزة المخابرات المصرية ترفض ذلك بشدة. ولكن مع الضغط السعودي ووساطة جمال مبارك، تغيّرت خريطة الإذاعة المصرية، وانطلقت أول إذاعة خاصة موجّهة بشكل أساسي للجمهور من الشباب والمراهقين. وبعد ثورة 25 يناير (كانون الثاني)، شهدت خارطة الإذاعات المصرية الكثير من التغييرات.

رصد
التحديثات الحية

كانت فكرة إنشاء إذاعة شبابية ذات طابع مختلف عن السائد في مصر وليدة مشروع (مصري سعودي) أنتج إذاعة "نجوم FM" التي كانت أول إذاعة خاصة في مصر تقدم أغاني شبابية وبرامج خفيفة، بدأت بثها في عام 2003، على موجات FM، وسرعان ما تحولت إلى الإذاعة الأكثر شعبية في البلاد، حتى أصبحت لا تكاد تخلو سيارة أجرة أو ميكروباص من صوتها.
كانت إذاعة "نجوم FM" تابعة لشركة "غود نيوز" لصاحبها عماد أديب، بتمويل سعودي، ويرأسها شقيقه عمرو أديب. وكان عرّاب الصفقة في حينها جمال مبارك، نجل الرئيس المصري السابق محمد حسني مبارك، والذي توسط لدى قيادات الأمن والمخابرات للحصول على موافقة منْح التردد على الموجة القصيرة لشركة خاصة. بينما أدارها عدد من الأشخاص منهم عمر رزق وأسامة منير، وانطلق من خلالها العديد من الأسماء التي اكتشفها عمرو أديب وتحولت إلى نجوم في فضاء الإعلام، منهم: يوسف الحسيني وطارق أبو السعود، وجيهان عبد الله ومروان قدري وأحمد يونس.
نجاح تلك الإذاعة الوليدة فاجأ الجميع، خصوصاً أنها حققت جماهيرية وشعبية كبيرتَين على مستوى الفئات العمرية المختلفة، حيث بدا المذيعون مختلفين وأقرب إلى التلقائية ويتحدثون العامية. ليس ذلك فقط، بل نجحت شركة "غود نيوز" في تقديم أحدث الأغنيات لكل المطربين، والذين باتوا يفضلون أن يكون البث الأول لأغنياتهم من خلال موجات "نجوم".
ذلك النجاح جعل مسؤولي اتحاد الإذاعة والتلفزيون وقتها يتساءلون عن السر، في ظل تراجع الإذاعات العامة والتابعة للاتحاد (الهيئة الوطنية للإعلام حالياً) وهو ما جعلهم يستقطبون المذيع اللامع في "نجوم إف إم" طارق أبو السعود، بدعوى أنه ابن الاتحاد حيث كان يعمل مذيعاً في "صوت العرب"، ليؤسس محطة "راديو مصر"، كإذاعة شبابية متحررة قليلًا من نمط الإذاعات الكلاسيكية.

عن التجربة، قال طارق أبو السعود في تصريحات إعلامية: "في عام 2008، قابلت الأستاذ عبد اللطيف المناوي وطلب مني عمل راديو جديد بفكر جديد، وقمنا بتأسيس "راديو مصر"، وتم افتتاحه عام 2009، وفي عام 2010 طلب مني تأسيس "راديو النيل" وقمت بعمل ثلاث محطات مختلفة. وفي عام 2012 قدمت استقالتي من راديو النيل، التابع للهيئة الوطنية للإعلام، التي كانت في السابق اتحاد الإذاعة والتلفزيون: راديو مصر كان أول مشروع في تطوير التلفزيون، وحقق راديو مصر تواجُدا وبات ينافس، خصوصا أنه يبث الأخبار على رأس كل ساعة، حيث أصبح يقدم مادة متنوعة خفيفة، مع الكثير من الأغاني، إضافة إلى الأخبار، وتحررت لغة المذيعين كثيرا مما هو معتاد في الإذاعات المصرية العريقة".
قام طارق أبو السعود، ومن بعده المذيع وليد رمضان (تولى المسؤولية في 2016، بعد تولي عبدالفتاح السيسي الحكم) بتطوير كل مجموعة الإذاعات التابعة لراديو النيل: "راديو هيتس" التي انطلق بثها التجريبي في 24 يوليو/ تموز 2010، هي إذاعة شبابية تبث مزيجاً من الأغاني العربية والإنكليزية على مدار 24 ساعة، وتبث داخل مصر على تردد 88.2 إف إم راديو هيتس، وتهتم بمخاطبة الشباب من المراهقين وعرض الأغاني والمواد التي تناسب أعمارهم. هذا إلى جانب "نغم إف إم"، التي تنافس "نجوم إف إم" و"شعبي إف إم"، وكان الهدف منها بث كل ما هو شعبي واستهداف فئات كثيرة من أصحاب الأعمال اليدوية والحرفيين والسائقين، ونجحت فعلاً في الوصول إلى تلك الفئات الشعبية وحققت نجاحاً ساحقاً. كما بالإضافة إلى إذاعتي "ميغا إف إم"، و"Mix FM"، وكلتاهما تقدمان محتوى خفيفاً.
استمر حال السوق والإذاعات المصرية على هذا الشكل، حتى قيام ثورة 25 يناير/كانون الثاني، حيث كان محصوراً ما بين الإذاعات الرسمية والمحلية والتي حاول بعضها تطوير محتواه لمنافسة الواقع الجديد وإذاعة نجوم FM. مع التغييرات السياسية التي تبعت ثورة يناير، ثم تولي الرئيس محمد مرسي الحكم عقب انتخابه مباشرة، غرقت القاهرة في طوفانٍ من الإعلانات. اجتاحت الشوارع والجسور وأعمدة الإنارة وجدران المباني إعلانات عن محطة إذاعية جديدة تحت اسم "راديو 9090"، وضمت الكثير من أسماء النجوم الذين يقدمون برامجهم على موجاتها. وضمت أيضاً عدداً من الوجوه الإذاعية المعروفة، وهذا طبيعي لأن من رأسها وأدار المحتوى هو نفسه الإعلامي طارق أبو السعود. حينها، طُرحت التساؤلات عن سر تلك الإذاعة الوليدة والتي بدأت تحاصر الناس في كل مكان نظراً للدعاية المكثفة في الإذاعات والتلفزيون والتي صاحبت رحلة الانطلاق؛ كما لا ينسى أحد الإعلان التلفزيوني الجديد الذي صوره فريق العمل في الإذاعة من نجوم ومذيعين شباب عند قصر البارون. سريعاً، انتشرت الأنباء بأن المخابرات الحربية التي كان يديرها اللواء عبد الفتاح السيسي في ذلك الوقت، قرّرت اقتحام الإعلام المصري على نحو مباشر، ودفعت المخابرات بكل وجوه الداعمين لها في هذا التوقيت عبر أثير تلك الإذاعة ومنهم لميس جابر والمذيعة معتزة مهابة وخيري رمضان الذين ساعدوا على نقل وتمرير كل رسائل المخابرات في وقتها وساعدوا في التمهيد للانقلاب ودعمه وتأييده.

كان "الراديو 9090" والموقع الإلكتروني الملحق به "مبتدأ" بمثابة المتحدثين باسم الجيش في ذلك الوقت. وتدريجياً، ومع قرب موعد انقلاب الثلاثين من يونيو/حزيران 2013، أصبحت الإذاعة والموقع هما اللذان يبثان البيانات الخاصة بالجيش وينفردان بأخبار القوات المسلحة.
في تلك المرحلة كان رجل الأعمال الغامض طارق إسماعيل، الوجه الخفي للسيسي، هو المسؤول عن تلك المنظومة. إلى أن وقعت خلافات بين أجنحة الضباط العاملين في جهاز المخابرات وتحول الأمر إلى معارك يخوضها كل فريق والجناح التابع له ضد الآخر، بعد أن بات الإعلام المصري كله يرتدي اللون الكاكي، وليس فقط الإذاعات التي أصبحت خاضعة بشكل كامل لجهازي المخابرات سواء الحربية أو العامة، وذلك بعد أن استحوذت شركة "إعلام المصريين" التابعة للمخابرات العامة على مجموعة "دي ميديا" التي كانت تابعةً لجهاز الاستخبارات الحربية، ويديرها طارق إسماعيل المقرب من عباس كامل، وتمتلك مجموعة قنوات "دي إم سي" وموقع "مبتدا" وإذاعة "الراديو 9090". وبعد فترة، تم تهميش دور طارق إسماعيل نهائياً، مع إعطاء تامر مرسي ورجاله صلاحيات كاملة، حيث أوكل تامر مرسي إدارة ذلك القطاع وكل ما يتعلق بالإذاعات إلى طارق أبو السعود.
بعد ذلك، أصبحت أغلب الإذاعات التي تبث عبر الموجات القصيرة في مصر "إف إم" في قبضة الأجهزة الأمنية، إلا إذاعة واحدة وهي "إنرجي مصر" (NRJ)، لصاحبها وليد مصطفى، والتي هي بالأساس امتداد للعلامة التجارية الفرنسية NRJ التي تأسست في عام 1981، وتقدم محتوى ترفيهيا بعيدا عن السياسة.
وليد مصطفى لم يحصل على رخصة البث على الموجة القصيرة بشكل طبيعي، إذ إنه من المعروف عنه صلاته الممتدة بالأجهزة الأمنية حتى قبل ثورة يناير 2011؛ إذ كان مصطفى هو الاسم الذي استخدم إبان تأسيس موقع وصحيفة "اليوم السابع" سنة 2008 ليتم وضعه كرئيس لمجلس إدارة المؤسسة، من أجل إخفاء هوية الملاك الحقيقيين، والذي كان بينهم أشرف الشريف نجل رئيس مجلس الشورى ووزير الإعلام السابق والأشهر، وأحد أقوى رجال مبارك، صفوت الشريف، وممدوح إسماعيل، صاحب "السلام 98"، العبارة المصرية المملوكة لشركة السلام للنقل البحري والتي غرقت عام 2006 وراح ضحيتها أكثر من ألف شخص.
ظل وليد مصطفى في منصبه بـ"اليوم السابع" حتى قامت الثورة وهرب أشرف الشريف إلى العاصمة الفرنسية باريس. ومع محاولات رئيس التحرير، خالد صلاح، للتقرب من الثورة وجماعة الإخوان المسلمين التي وصلت إلى الحكم في 2012، أطاح صلاح الذي كان يمتلك أسهماً في المؤسسة بمصطفى وبدأ باستقطاب رجال أعمال آخرين ومنهم أحمد أبو هشيمة. غاب وليد مصطفى لفترة وعاد إلى عمله الأساسي كمنظم للحفلات ومنتج فني ثم عاد مرة أخرى بإذاعة "إنرجي مصر".

المساهمون