إدلب بين طبول الحرب والحلول الصعبة

إدلب بين طبول الحرب والحلول الصعبة

31 اغسطس 2018
+ الخط -
يجبُ الاعتراف، أولا، بأن التغرير بالناس، والمخاطرة بأرواحهم، بلا طائل، عملٌ لا أخلاقي، وأن الذهاب إلى مواجهة عسكرية في إدلب، من دون تغيير قواعد اللعبة، لن نجني منه سوى مزيد من الشهداء والجرحى والأرامل والمشرّدين، فلا بديل من رفع صوت العقل، والتحلّي بالإيمان لقول الحقيقة، والعمل، في الوقت نفسه؛ لتجنيب الشعب السوري أهوال احتلال النظام إدلب، وسيطرته عليها عسكريًا، أو المضي في معركة خاسرة بالأدوات التقليدية نفسها.
إن تغيير قواعد الاشتباك، وخلط الأوراق، هي أولى محطات صمود إدلب التي تُعدّ آخر معاقل الثورة جغرافيًا، وبإمكان جميع القوى، مدنية وعسكرية، أن تقف موقف مسؤولية أمام ما يحصل، بدل الركون إلى الزوايا، وممارسة الشجب واللطم والنحيب.
لقد شهدت الأيام الماضية تراشقًا إعلاميًا بين واشنطن وموسكو، حيث أكد مستشار البيت الأبيض للأمن القومي، جون بولتون، الأربعاء الماضي، أن واشنطن سترد "بقوة" في حال استخدم نظام الأسد أسلحة كيميائية في عملية استعادة إدلب.
فردت روسيا، السبت 25 آب/أغسطس، باتهام فصائل المعارضة السورية بالتحضير لـ "هجوم كيميائي" في محافظة إدلب، وزعمت، في بيان أذيع على لسان الناطق الرسمي باسم وزارة الدفاع الروسية، إيغور كوناشينكوف: أن "هيئة تحرير الشام تُعِدّ لاستفزاز آخر، يتعلق 
باستخدام القوات الحكومية السورية أسلحة كيميائية ضد سكان محافظة إدلب المسالمين".
واتهم كوناشينكوف أجهزة بريطانية خاصة بـ "التورط تورطًا مباشرًا" في "الاستفزاز" الذي "سيشكل مسوغًا جديدًا للولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا؛ لتنفذ ضربات جوية ضد أهداف تابعة لنظام الأسد".
إن هذا التصعيد الأخير يدلّ على نية روسيا المبيّتة لاحتلال إدلب، وفي ظل احتدام المواقف وتشابكها، يصعبُ التكهن بما ستؤول إليه الأمور؛ فتركيا التي تُعدّ المعنية الأولى بالملف، تسعى -جاهدة- لإبرام اتفاق طال انتظاره مع روسيا بخصوص إدلب، من خلال زيارات مكوكية بين أنقرة وموسكو، وعلى أرفع المستويات، كان آخرها زيارة وفد تركي موسكو، يتألف من وزير الخارجية، ووزير الدفاع، ورئيس جهاز الاستخبارات، هاكان فيدان، والتقى الوفد بنظرائه في الحكومة الروسية، بحضور بوتين نفسه، وبحسب ما تناقلته وسائل الإعلام، فقد اتفق الطرفان -مبدئيًا- على ضرورة إنهاء ملف المنظمات الإرهابية، وفي طليعتها "هيئة تحرير الشام". ومن جهتها، ردت "هيئة تحرير الشام" بأنها ماضية في التحضير للمواجهة العسكرية، وأنّها على أهبة الاستعداد!
وفي ظل هذا الصخب، تقف المعارضة السورية، بشقيها العسكري والسياسي، عاجزة عن الفعل، بل عاجزة عن فهم المواقف المتعلقة بمصير أكثر من ثلاثة ملايين مدني، كدسهم نظام الأسد وحلفاؤه في محافظة إدلب، بعد أن هجّرهم من مدنهم وقراهم، بينما تسعى روسيا -في الآونة الأخيرة- سعيًا محمومًا؛ لإعادة اللاجئين السوريين من دول الجوار، بعد سيطرتها على الجنوب السوري؛ كي يتسنى لها فتح باب إعادة الإعمار الذي يفتحُ شهية الجميع!
ولكي تتمكن من فرض هذا الملف دوليًا، لا بدّ من أن تقنع الجميع بأنها انتصرت كليًا في الحرب السورية، ولم يبقَ هناك ما يحول دون عودة الاستقرار إلى البلاد، ومباشرة إعادة الإعمار. لكنّ وجود مناطق خارجة عن سيطرتها، كمحافظة إدلب، بوصفها رمزًا للمعارضة، ومعقلًا أخيرًا لها، يحولُ دون نجاحها التام في فرض أجندتها على نظرائها في المجتمع الدولي، ويجعل باب المفاوضات مفتوحًا أمام تأجيل عودة اللاجئين، وإرجاء إعادة الإعمار إلى ما بعد حل مسألة الدستور والانتخابات، وهذا ما يرد به الأوروبيون والأميركيون على الروس في اجتماعاتهم.
وبالطبع، فإن روسيا التي لم تؤمن -يومًا- بالحلول السياسية، تسعى لإنهاء ملف إدلب العالق الذي يحولُ بينها وبين طموحها، وهذا -بدوره- يجعل شهيتها للمعركة أشد، سواء أكانت معركةً جزئية، بعد تفاهمات مرحلية مع تركيا، كما يشاع في الأوساط السياسية؛ بحيث تمنح المناطق القريبة من الساحل، ومناطق شمالي حماة؛ حتى جنوبي إدلب للروس، في مقابل محافظة المعارضة على ما تبقى من المنطقة، بعد القضاء على "التنظيمات الإرهابية"، أم كانت معركة مفتوحة، لا يبدو أنها تتورع عن خوضها، ولا سيما بعد تصريحاتها الأخيرة.
وعلى هذا؛ فإن اعتماد المعارضة السورية اعتمادًا كلياً على حليفتها تركيا التي تعاني أزمة سياسية مع واشنطن، وأخرى اقتصادية، هو خيارٌ غير صائب، سيكلفها كثيرًا، إذا لم تبادر إلى تجنيب المدنيين هول الكارثة المحدقة بهم.
لقد ضاقت خيارات السوريين في كل المجالات؛ لأسباب كثيرة، بات معظمها معروفًا، ولا مجال لذكره هنا، ولكن لا يستطيع أحد منعهم من الدفاع عن أنفسهم؛ ولكي لا تتحول معركتهم إلى جولة خاسرة، يجب إجراء تغيير جوهري داخلي، يمكن التعبير عنه في نقطتين أساسيتين، لا يمكن الفصل بينهما؛ فالأولى مرتبطة ارتباطًا عضويًا بالثانية:
تتمثل النقطة الأولى بالعمل لعلى إنشاء "هيئة الدفاع عن إدلب"، وهو تشكيل تبنيه كل الفاعليات المدنية والعسكرية، والشخصيات الاعتبارية في المحافظة بأسرها، وينحصر هدف هذا التشكيل بالدفاع عن إدلب، وتجنيبها الاستقطاب الفصائلي، والصراعات السياسية. وبما أن الخطر محدق بالجميع، فعلى هذه الهيئة المرتقبة إعلان النفير العام، وفتح باب التجنيد الطوعي في صفوفها لجميع أبناء المحافظات المهجّرة، وعلى رأسهم -بالطبع- أبناء محافظة إدلب.
وهذا سيضفي عليها شرعية شعبية، ويضعف الاستقطاب الفصائلي والسياسي، ويكسبها خاضنًا شعبيًا في الخارج، تستطيعُ -من خلاله- الفاعليات المدنية في دول اللجوء التحرك والضغط؛ لإيقاف الروس عن مسعاهم، وسحب ذريعة سيطرة "القاعدة" على إدلب.
أما النقطة الثانية، فهي حلّ "هيئة تحرير الشام" نفسها، وتسليم عتادها للتشكيل الجديد؛ فوجود
"هيئة تحرير الشام" هو الذريعة الأولى للنظام وللروس؛ كي يشرعوا في عمليتهم العسكرية، وحلّها سيؤخر خطط الروس، وسيخلط الأوراق من جديد؛ فيتسنى للمعارضة السورية وحلفائها -بذلك- إعادة تشكيل المواقف، والمحافظة على إدلب تحت سيطرتهم.
ومن دون حلّ "هيئة تحرير الشام" نفسها، لا يمكن إيقاف العدوان على إدلب، وتجنيب المدنيين هول ما سيحصل، والمتابع لتسارع الأحداث يدرك أنْ لا مستقبل لـ "هيئة تحرير الشام" في هذا المنطقة، وأن سيناريوهات عدة وُضعت لإنهائها، وعلى رأسها العمل العسكري ضدها، سواء من الأتراك أم من الروس، أم من فصائل المعارضة نفسها، بدعم من تركيا؛ لذلك، فأسلم الحلول وأفضلها هو حلّها، وتسليم عتادها للتشكيل الجديد الذي سيسعى للدفاع عن المحافظة، وينهي حالة الانقسام الفصائلي إلى حين.
وبالطبع، لا يبدو الأمر يسيرًا؛ إذ ثمّة سباق مع الوقت، فتركيا الضامنة لاتفاق أستانة ليست في أفضل أحوالها، ولا سيما بعد أزمتها الاقتصادية الأخيرة، وخلافها مع الولايات المتحدة الأميركية، و"هيئة تحرير الشام" ترفضُ حلّ نفسها؛ بحجة غياب البديل الذي يستطيعُ الذود عن إدلب وأهلها، وروسيا تسعى، جاهدةً، للاستفادة من تعنت "هيئة تحرير الشام"، وتوجيه ضربتها في أسرع وقت ممكن، وفي ظل هذه المعضلة، فإن إنشاء تشكيل شعبي، يسعى للدفاع عن المدنيين، ويخرج إدلب من حالة الاستقطاب الفصائلي، سيخلق البديل الشرعي الذي سيدفعُ "هيئة تحرير الشام" إلى حلّ نفسها، وعندئذ، فحسب، سيكون بإمكان إدلب أن تقلب المعادلة، وأن تواجهَ معركتها بأدوات جديدة، لم يتوقعها خصومها، وعندئذ، أيضًا، سيتمكن السوريون، مجدّدًا، من جذب أنظار العالم إلى قضيتهم، بوصفها قضية شعب يسعى لتحقيق حريته، وقد حمل السلاح ليدافع به عن نفسه، بعد أن سفك النظام دماء أبنائه، وخذلهُ المجتمع الدولي بصمته.