إدارة التوحّش

إدارة التوحّش

03 ديسمبر 2014
الجبرية التي هي لُبّ السلطوية والاستبداد (Getty)
+ الخط -

في عام 2009، وعقب العدوان الإسرائيلي على غزة، كنت في زيارة لأحد الأصدقاء، وكنت أداعب طفله ذو الخمسة أعوام، أو أقل، وأخذ الطفل يحكي ويتحدث عن المشاهد التي رآها في (التليفزيون) والتي كانت تصور أحداث الحرب. كان حديثه يحمل خوفاً حقيقياً، وربما يصل حد الرعب، عن ما رآه من مشاهد هدم البيوت وقتل الفلسطينيين، وأخبرني والده أن ابنه ظل فترة يستيقظ بفزع شديد من الجندي الذي يحاول أن يقتله!

اليوم بلغ هذا الطفل عشرة أعوام، ولكن مشاهد القتل والتدمير باتت طبيعية لديه، فقد تعودها في (التليفزيون) وفي الشارع وفي حديث الناس، شأن هذا الطفل شأن غيره من أطفال العرب، وبعضهم شاهد مشاهد القتل مباشرة وكان حاضراً فيها.

وفي فيلم "إبراهيم الأبيض"، الذي حمل فكرة العنف الشعبي وشبكات البلطجية وكيف تُدار الأمور في دولة الظل ودولة العشوائيات، وبرغم ما حمله الفيلم من كمٍ دموي مبالغ فيه، إلا أنه من أهم الأفلام التي تجسّد فكرة السياسة الشعبية وكيفية إدارة موازين القوى على المستوى الأصغر للدولة.

في هذا الفيلم، يتحدث عبد الملك زرزور، الذي جسّد شخصيته الفنان محمود عبد العزيز، بلغة المعلّم الحكيم "لو في نخلة فِرعه في حوش بيتك وجدورها مدّت وهايجيلها يوم تضايقك تقطعها على طول ولا تستنى بلحها الأول وبعدين تقطعها؟!"، ليحاول أن يحكي بتبسيط بليغ عن فكرتين أصيلتين في السياسة، وهما فكرة التوظيف، وصيانة المصالح والتحالفات المؤقتة، وهي الفكرة نفسها التي تُساق يومياً عن تنظيمات كداعش والقاعده حاول الطرف الأميركي، المعلّم زرزور، أن يوظفها لتحقيق المصالح كمقدمة للبطش بها في المستقبل.

لم تعد القوى الكبرى، المعلّم، بهذه الدراية لحماية المصالح، ولا بهذه القدرة للتحكّم في مجريات الأمور، ولكن هكذا تظن القوى الأكبر حجماً بنفسها أنها تصون مصالحها وأنها قادرة على التحكّم حتى النهاية، ويمكنك أن تمد المثال على استقامته لترى انعكاساته في الأوضاع في مصر مثلاً، في تعامل الجيش والجهاز الأمني مع فكرة الإرهاب والجماعات المسلحة، وفي اليمن من خلال إدارة بعض دول المنطقة بالتعاون مع الأميركي في تقوية الحوثي، وأيضاً في العراق وسورية!

إن المنطقة العربية وقلب الشرق الأوسط تموج فيها موجات من العنف تخرج بالمنطقة عن العنف لتصل لمرحلة التوحّش، والتوحّش هو حالة فقدان البوصلة نحو المصالح، مع فقدان القدرة على التحكّم في العنف، أو هو حالة أشبه بالسعار لدى الحيوانات المفترسة فهي تفترس لا لتشبع جوعها وتأكل ولكن لمجرد الافتراس.

في ظل التوحّش الذي يجتاح المجتمعات، تتراجع شرعية العدل لصالح شرعية القوة، وتتآكل شرعية الحقوق لصالح شرعية الحاجات، وتختفي شرعية الحرية مقابل شرعية الأمن، فمَن يملك القدرة على الحماية والسيطرة، له الحق في الحكم، وبالتالي يتراجع الاختيار الذي هو لُبّ الديمقراطية والحكم الرشيد لصالح الجبرية التي هي لُبّ السلطوية والاستبداد.

وأنا أبحث عن كيفية إدارة التوحّش، وجدت كتاباً بالعنوان نفسه لشخص اسمه أبو بكر الناجي، ولا أدري أهو اسم حقيقي أم مستعار، من منظّري القاعدة، ويرجع تاريخ إصدار الكتاب، المترجم باللغة الإنجليزية من خلال مركز الدراسات الاستراتيجية لجامعة هارفرد، لعام 2006، يتوقع أن يكون الكتاب عبارة عن مراسلات بين مؤلف الكتاب وزعيم القاعدة السابق أسامة بن لادن. يتحدث الكتاب عن كيف تصبح إدارة التوحش هي استراتيجية القاعدة مستقبلاً لكي تكون بديلاً قادراً على إدارة المناطق التي تضربها الفوضى، نظراً للصراع المسلح بين الجماعات المسلحة والحكومات المركزية.

والكتاب، وإن كان يحتاج لتفصيل وقراءة متأنية ومركّزة، إلا أن الفكرة التي تواكب الواقع الحالي بشكل يصل لحد التطابق في بعض المشاهد، تجعلنا بحاجة للتفكير في أمر التوحش وفكرة إدارة التوحش ومواجهتها.

فإن الانقسامات الأهلية والاجتماعية والصراعات السياسية والعسكرية والفشل الاقتصادي الذي يصيب الجزء الأكبر من الوطن العربي وقلب الشرق الأوسط من المتوقع أن تتصاعد وتزداد شراسة وتوحّشاً في المستقبل القريب، لذا يجب التفكير عملياً في كيفية إدارة المجتمعات في ظل هذا التوحش وما هي التحالفات اللازمة لتحجيم التوحش لا تعظيمه وما هي الممارسات الحكومية والشعبية في مواجهة حالات التوحش سواء كانت من جماعات مسلحة أو من حكومات مستبدة، لا لتصل المنطقة لاستقرار فقط ولكن لكي لا تبتعد كثيراً عن الحرية والحقوق والعدالة.

إدارة التوحش لا تعني، كما طرحها الناجي، فكرة إدارة الأقوى لحاجيات المناطق الضعيفة التي فقدت الحكومة المركزية سلطتها عليها، ولكن يجب التفكير في السياسات التي يجب أن تتخذها الدول التي يجتاحها التوحش أولاً لمحاولة تحجيمه، وثانياً لمحاولة إيقاف نزيف الموارد في المناطق التي تتعرّض للتوحش، ومن جانب آخر دراسة التحالفات التي ستنشأ بين القوى المتورطة في العنف، وبعضها.

وبين إدارة التوحش، وفق مفهوم الناجي، وإدارة الفوضى، وفق مفهوم كونداليزا رايس، وفي ظل توسعات داعش في الهلال الخصيب، وهجوم التحالف الدولي بقيادة أميركا على داعش، سينمو على هامش هذه الأحداث الكثيرون ممّن توحشوا بفعل الواقع.


*مصر

المساهمون