أُفولُ العثمانية واستبدادها

أُفولُ العثمانية واستبدادها

23 نوفمبر 2014
السلطان عبد الحميد الثاني عام 1876
+ الخط -
تظلّ لحظة الانهيار المديدة التي شهدتها الدولة العثمانية جاذبة لإعادة التأمل والبحث وتقليب الأفكار، ذلك أنها تزامنت مع، كما ساهمت في، تشكل الوعي العروبي في المشرق سواء بتمثّلاته الثقافية والفكرية أو عبر طموحاته السياسية. ولئن توازى تصاعد الإحساس بالعروبة مع تسارع التفلت من العثمانية التي سقطت فريسة سياسة التتريك المتوتر في الهزيع الأخير من عمر الإمبراطورية المريضة، فإن جزءا غير يسير من الجدل الفكري والأكاديمي ظل يدور حول أثر انهيار العثمانية "المتأتركة" في بعث أطياف العروبة وأشكالها المتنوعة.

التيار الأعرض من المفكرين والمؤرخين، ومنهم ألبرت حوراني وهشام شرابي، ركّز على فكرة "رد الفعل" في تنظيرهم لبروز فكرة العروبة ثم تطوّر تعبيراتها الثقافية والسياسية المتنوعة. فالعروبة والقومية العربية جسدتا ردود الفعل العربية، المنظمة والعفوية، المقاوِمة لسياسات التتريك التي انتهجتها استنبول بتشدد ملفت، وتوازياً مع ترسخ النزعة القومية التركية في أوساط النخب الحاكمة هناك، وتكرّس نفوذ جميعة الاتحاد والترقي. العروبة والقومية العربية هما، تبعا لهذه النظرة، نتاج عوامل خارجية أكثر مما هما نتاج تطور داخلي في فضاء الثقافة العربية نفسها. هما رد فعل موضوعي، وليسا فعلا ذاتيا.

مقابل هذا التنظير الذي يحيل الوعي العروبي إلى ضغط العوامل الخارجية ثمة تحليل يلتقط خيوط تراكم هذا الوعي داخليا خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وقبل سياسات التتريك بزمن طويل. وهذا ما يتبناه المؤرخ والأكاديمي المخضرم أرنست دون Ernest Dawn ويختلف فيه مع من حصر بروز القومية العربية في مسألة رد الفعل على التتريك. يقول دون إن بذور كثير من الوعي العروبي والوعي بالذات القومية العربية، كانت قد تطورت في أوساط النخب العربية العثمانية والمسؤولين وكبار الموظفين في العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر، على خلفية تعمق وتوثق معرفتهم بأوروبا، وانبهارهم بنهضتها.

آنذاك كانت كل الدلائل تشير إلى المنحى الآفل لتفكك الإمبرطورية العثمانية على خلفية ضعفها المشهود وتخلفها عن أوروبا. وفي سياق البحث عن "بديل" حضاري يحتل المواقع التي تخليها العثمانية المتهالكة برزت في أوساط تلك النخب أفكار العروبة والقومية التي رأت في العرب مكوناً متميزاً ومختلفاً عن بقايا مكونات الإمبرطورية العثمانية، وجديرا باحتلال موقع البديل. تصاعدت تلك الدعوات وتبنّت في ما دعت إليه فكرة اللامركزية بهدف انتزاع أقصى درجات الحكم الذاتي السياسي للمناطق العربية.

على خلفية هذا الجدل التاريخي الممتع والمثير نطالع مجموعة من الإضاءات التاريخية والفكرية المهمة التي يقدمها لنا الباحث والمؤرخ في الحقبة العثمانية خالد زيادة، والذي أضافت بحوثه الأصيلة معرفة جديدة ومتجددة في هذا المضمار.

تقدّم قراءات زيادة في دراسة لحظة "الانهيار الطويل" أفكاراً تفرض إعادة التأمل في تفاعلات النخب العربية والعثمانية الحاكمة مع تلك اللحظة "الانهيارية" والمحاولات اليائسة لدفعها وتفاديها. وفيها يقرأ ويحلل رؤى النخب والعلماء والسياسيين في نهوض الغرب والتجربة المريرة والمستديمة في المقارنة بين حال المسلمين وإمبراطوريتهم العثمانية، وحال الغرب ودوله المتقدمة، علماً وفكراً وحرباً وسياسة (في "المسلمون والحداثة الأوروبية"). ريادية بعض هذه البحوث تكمن في أصليتها وبكونها تُترجم إلى العربية لأول مرة عن نصها الأصلي، التركي أو الفرنسي، مثّل كتاب محمد روحي الخالدي "أسباب الانقلاب العثماني وتركيا الفتاة" الذي صدر سنة 1908. أو بكونها تُحقق وتُدقق للمرة الأولى أيضا وتُقدم على خلفية السياق الذي صدرت فيه مثل كتاب سليمان البستاني "عبرة وذكرى أو الدولة العثمانية قبل الدستور وبعده" والذي صدر في السنة نفسها أيضا، وهو الذي كان مندوبا في "مجلس المبعوثان" (البرلمان).

وهناك أيضا النصان الممتعان المترجمان عن الفرنسية، لاثنين من كبار المسؤولين العثمانيين، والملحقان في كتاب "المسلمون والحداثة الأوروبية". أولهما للسفير محمود رئيف بعنوان "التنظيمات الجديدة في الدولة العثمانية 1798"، والثاني للمهندس سيد مصطفى بعنوان" نقد حالة الفن العسكري والهندسة والعلوم في القسطنطينية 1801".

في كتابَي الخالدي والبستاني، ثمة تشابهات مثيرة تعكس تفكير واهتمامات وتوجّهات طبقة من المثقفين العرب، لا تندرج بالضرورة في واحد من اتجاهي فهم مسألة بروز العروبة في الحقبة الأخيرة من الدولة العثمانية (كرد فعل أو كفعل ذاتي). بل ربما جاز القول إن بعض ما تنطوي عليه فصول هذين الكتابين يطرح تساؤلات مهمة حول منهجية وعلمية وموضوعية حشر الجدل في الاتجاهين المذكورين. الخالدي والبستاني يكتبان نصين في السنة نفسها، 1908، مرحّبين بقوة بالانقلاب الذي قادته جمعية الاتحاد والترقي وتركيا الفتاة على السلطان عبد الحميد، ويعتبرانه مؤذنا بمرحلة جديدة تتخلص فيها "الدولة العليّة" من مصدر الأمراض والشرور الذي أحبطها وأدى بها إلى التقهقر والتخلف وراء أوروبا، وهو "الاستبداد".


الخالدي، المثقف الفلسطيني الريادي والموسوعي آنذاك، يكتب هنا موجِزاً تاريخ العثمانيين ويبجِّل سلاطينهم العظام، مثل عثمان المؤسس ومحمد الفاتح وسليمان القانوني، ثم يصف التردّي في حقبة عبد الحميد الثاني حيث الفساد والتجسس وإفقار الناس وسرقة أرزاقهم وغياب العلوم الحديثة. الخالدي ذو الثقافة الواسعة، والذي درس في السوربون واطلع على العلوم والآداب والسياسة الحديثة وكتب عن فيكتور هوغو، يقدِّم وصفا دقيقا لنمط الحكم والسياسة الفاسد في الدولة العثمانية، خاصة إلغاء الدستور سنة 1878 من قبل السلطان عبد الحميد الثاني. تلك هي اللحظة القاصمة التي يراها الخالدي، وهي التي ضيعت على الدولة العثمانية الاندراج في مسار التقدم السياسي والحرية. وعوضا عن ذلك انحطّت في مهاوي الاستبداد المدمر. وهو الاستبداد الذي استشرس وقاد في نهاية المطاف إلى انقلاب عام 1908 الذي هو "أعظم انقلاب" برأي الخالدي. وكما كان يرى الكواكبي، فإن الخالدي يرد إلى الاستبداد كل الشرور التي تنحط بالأمم والجماعات: "إن الذي يولّد الانقلاب هو الاستبداد، ومقتضاه التغلب والقهر اللذان هما من آثار الغضب والحيوانية، لا من قواعد الدين الإسلامي، كما يتوهم بعضنا وأكثر الأوروبيين الذي يصفون الحكومات الإسلامية بكونها تيوقراطية، أي أنها جامعة بين الديانة والسياسة، وأحكام المستبد والمستبدين في الغالب جائرة على الحق".

سليمان البستاني من جانبه، وهو المثقف الموسوعي الآخر، والذي أتقن الإنجليزية والفرنسية والتركية، وترجم الإلياذة إلى العربية، نسج على المنوال ذاته الذي اتبعه الخالدي، وتحديداً في الأمرين الأهم: في ترحيبه بالانقلاب التركي الذي أعاد العمل بالدستور المُعطّل من قبل عبد الحميد، واعتباره ذلك نقطة انطلاق وتحول تاريخية في مسار الدولة العثمانية، ويعلق آمالاً كبيرة عليه، ويرى فيه تحررا للشعوب والملل من ربقة تحكم السلاطين وجواسيسهم وولاتهم، وتحريرا للطاقات والعقول المكبوتة وحتى للثروات الطبيعية المهملة والمنسية.

وفي كتابه الممتع "عبرة وذكرى" يتحدث عن قيمة الحرية ويعتبرها المرتكز الأساسي في التقدم، ويفرد فصولا مثيرة يحمل جلّها مفردة "الحرية" كجزء من عنوان الفصل، بما يشير إلى تملك هاجس الحرية من وجدانه ونظرة للحياة والمجتمع والدول. ومن عناوين تلك الفصول، مثلاً هناك: "الدستور والحرية"، "الحرية الشخصية"، "حرية الصحافة"، "حرية التعليم"، "حرية التأليف والقراءة" وهكذا. وبوابة تلك الحريات وناظم السياسة الكلية هو الدستور. ومن شدة فرحه بعودة الدستور وإقراره على يد الاتحاديين، فإنه يفرط في التفاؤل والوصف، بما يعكس توقه الشديد لبزوغ الحريات التي كان يحلم بها، فيقول جذلا: "أما الدستور الذي نحن في صدده، وقد ارتج العالم لإعلانه، فهو الحكم النيابي على الطراز الحديث حيث تحكم الأمة نفسها، مع حفظ حقوق الخليفة الأعظم، وتتضافر على إنقاذ مضمون هذا الدستور النظامي حرفاً حرفاً".

بيد أن البستاني يكرر ويؤكد تمسكه بنظام الخلافة العثمانية، وهو المسيحي سليل الأسرة اللبنانية ذات التاريخ الثقافي والمساهمات الفذة في اللغة العربية والأدب. وهو لا يعبر عن ذلك على سبيل المجاملة العابرة، بل يتبنى ذلك عن قناعة راسخة، منبعها "عثمانيته" التي لا يساوم عليها. فـ "العثمانية" عنده هي الإطار الجامع للملل والنحل والقوميات والأديان التي تعيش في كنف الإمبراطورية. ويذهب في حماسه لها، في الكتاب، إلى الدعوة لفرض اللغة التركية لتكون هي اللغة الرسمية على جميع تلك المكونات، لأن ذلك يعني صهرها في بوتقة متجانسة واحدة ـ وهذه الدعوة كانت أحد أهم مرتكزات جمعية الاتحاد والترقي.

ولا يقف الخالدي بعيدا في عثمانيته عن البستاني، وإن لم يذكر مسألة فرض اللغة التركية. فهو الآخر متحمس إلى أبعد حد لأفكار الاتحاد والترقي، وكلاهما لم يستشعر النزعة الطورانية المتطرفة التي انطوت عليها تلك الأفكار، واستفزت لاحقا تيارا عريضا من المثقفين العرب، وسرّعت من بروز العروبة وطموحاتها التحررية.

انهمك الخالدي والبستاني في التنظير لمرحلة ما بعد الدستور، وتأملا أن تكون الحقبة الجديدة مدخلا لإعادة تجديد الدولة العثمانية وتحقيق العدالة بين شعوبها وأفرادها، والانطلاق سريعا نحو التقدم وامتلاك القوة والعلم على النمط الأوروبي. كان الحماس للتخلص من الاستبداد قد استبد بالاثنين معاً إلى درجة عدم الانتباه إلى بروز الاستبداد البديل الذي جاءت به الاتحاد والترقي وصاغ نمط علاقته مع الشعوب الأخرى، سواء في البلقان أو المنطقة العربية، وتوّج بمذابح الأرمن. لكنّ أيا كانت خلاصة تأملاتهما، فإنها تضيء بعض الجوانب الجديرة بأن تدخل في قلب السجال المستديم حول صعود العروبة وعلاقتها بأفول العثمانية.

المساهمون