أيوب والبطل ولغة الصورة: "تسجيلٌ" يصنع فناً

أيوب والبطل ولغة الصورة: "تسجيلٌ" يصنع فناً

19 ديسمبر 2018
أيوب والبطل و"لسّه عم تسجّل" (الملف الصحافي للفيلم)
+ الخط -
يتوزّع اهتمام الوثائقيّ السوري الجديد "لسّه عم تسجّل" (2018، إنتاج "بدايات للفنون السمعية البصرية" و"تجمّع رُسل") لغيّاث أيوب (يبرود، 1989) وسعيد البطل (طرطوس، 1988) على مسائل عديدة، أبرزها الاشتغال على معنى الصورة ومفاهيمها وارتباطها بالفن السابع وعلاقتها بالواقع والموضوع، وعلى إمكانيات التقاطها نبض اللحظة وامتدادات أحداثها في أكثر من مدينة، وفي أكثر من حكاية. يُشير بعض مشاهدي الفيلم في عرضه الدولي في برنامج "أسبوع النقّاد"، في الدورة الـ75 (29 أغسطس/آب ـ 8 سبتمبر/أيلول 2018) لـ"مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي" (جائزة الجمهور)، إلى مسألتين اثنتين يعتبرهما هذا البعض سلبيتين بحقّه: مدّته الطويلة، وعدم وجود ثقلٍ درامي ـ فني ـ جمالي يُفترض به تخفيف وطأة المدّة الطويلة هذه (120 دقيقة). 
لكن التمعّن في معطيات متنوّعة، يمنحها الوثائقيّ في مقاربته أحوال سورية في سنيّ حربها، بين عامي 2011 و2015 تحديدًا؛ والانصراف مع المخرجَين وآلات الكاميرا التي يستخدمانها في التصوير إلى توثيقٍ سينمائيّ لراهن مثقل بمآزق، لن تحجب تمكّنهما السينمائيّ من رصد لقطات تشي بسوريالية تُثير ضحكًا وسط خراب قاسِ؛ وتجاوز ألم المُشاهدة المنبثق من عنف الحالة، المتمثّل في صُور وشخصيات وعلاقات، في مقابل سلاسة لحظات أخرى تؤكّد رغبة دفينة في ذات فردية في عيش خارج على الحرب والموت والدمار؛ هذا كلّه كفيلٌ بتحويل "المدّة الطويلة" إلى مساحة ـ زمنية وإنسانية وجمالية وفنية ـ يصنع فيها أيوب والبطل تجربة تبدأ بالإنساني وتلتقي بالسينمائي وتُقارب المأسوي، كي تصنع توثيقًا بصريًا يمتلك لغته السينمائية في التصوير والمونتاج وتحريك الكاميرا والإضاءة والتقاط حالات وانفعالات وسرديات، بهدف اكتشاف قوّة التصوير وبراعته في اقتفاء أثر ثورة تُفرض عليها حرب لتصفيتها، ولفهم شيءٍ من تفرّعات تلك الثورة السلمية، عبر ظهور جهاديين وأصوليين في قلب الحراك المدنيّ السلميّ، ومتابعة أحوالهم وحضورهم وتفكيرهم بلغة مبسّطة وغير متصنّعة وبعيدة عن كلّ حكم مسبق.

لن يكون تعليقٌ كهذا مُبالغًا به. فرغم شعورٍ بإمكانية تقليص المدّة الطويلة، بالاستغناء عن لقطات ومشاهد تبدو مُكرّرة بمضمونها على الأقلّ (وهي قليلة أصلاً)، يُظهِر النصّ أحوالاً إنسانية تُقيم وسط أنقاض مدن وشوارع، وتنفتح على مواجهات لن تبقى في إطارها العسكري، إذْ تكشف شيئًا من أنماط تفكير سوري متأتٍ من انفلاش أصولية متزمّتة يكتسبها أفرادٌ فيريدونها أساس عيشٍ، بينما "لسّه عم تسجِّل" يتابع جوانب أخرى من العيش السوري، تظهر في أعمال فنية واحتفال بسهرة وذهابٍ إلى أقصى المُتاح لفرحٍ معطّل، وفي سخرية مقاتلين جهاديين من أحوالهم ويومياتهم، وصولاً إلى تخلّي بعضهم عن هذا كلّه من أجل حبّ مُترجم إلى زواج.

وإذْ تمتلك بداية "لسّه عم تسجّل" مدخلاً سينمائيًا يعكس شيئًا من علاقة الثنائي غيّاث أيوب وسعيد البطل بفنّ السينما، عبر تحليل لقطات سينمائية معروضة على شاشة كبيرة، يقوله الثاني أمام راغبين في معرفة ثقافية، فإنّ التوغّل في أزقّة الخراب أو داخل أمكنة صناعة فنّ أو عيشٍ مؤقّت خارج العنف، يُتيح للكاميرا اختبار كيفية اشتغالها المتنوّع في ظروفٍ تتراوح بين تحدّي الموت على خطّ تماس أو معركة، واكتشاف صورة ما لنبضٍ حياتي يتفشّى من عمق الدمار والموت. وفي مقابل معاينة دقيقة لمنطق يتمسّك به مقاتلون، وهو إنسانيّ يتعالى على رذائل الحروب وهمجيتها، كأن يمنع بعضهم آخرين من سرقة أو تحطيم مبان أو أثاث، أو محاولة بعض آخر منع رفاق لهم من إساءة معتقلين أعداء، جسديًا ومعنويًا؛ يلتقط أيّوب والبطل لحظات نابضة بنقيض الدم والقتل والتنكيل وتسلّط فكرٍ أصوليّ، تقول (اللحظات) بتمسّك أحدهم بممارسة الرياضة وسط الدمار كأسلوب حياة، أو انغماس آخرين في الرسم والنحت، أو سخرية البعض من شكل منزله القابع تحت الركام، أو اختيار أحدهم الزواج مسارًا جديدًا لحياة مختلفة.

يرى بعض مشاهدي "لسّه عم تسجّل" في عرضه الدولي ذاك أن القصّة غائبة. لكن هذا تحديدًا ما يُثري النصّ الوثائقيّ، إنْ تكن القصّة غائبة كلّيًا، وهي هكذا أصلاً إذا أُريد لها أن تكون تقليدية في سردها الحكائيّ. الأهمّ كامنٌ في تحويل القصة إلى حالات، وفي متابعة أحوال أناسٍ ومدن وفضاءات بعيدًا عن ثرثرة خطابية أو سرد كلاسيكي، وفي مقاربة ثورة يُحطّمها نظام أسديّ متحالف مع تنانين القتل والنهب والتخريب. وهي مقاربة تستند إلى اختبار الكاميرا في بحثها عن أقصى مدى بصري يُمكن بلوغه، لاكتشاف عوالم مخفيّة في ثنايا المدن المحطّمة والنفوس القلقة والأصوليات المضطربة.

أميل إلى قولٍ مفاده أنّ الفيلم الأول هو المدخل الأساسي إلى عالمٍ مليء بالتخبّطات والتحدّيات، وإلى فنٍ يتطلّب جهدًا كبيرًا للخروج من جمالية الخطوة الأولى ومطبّاتها الكثيرة. أميل إلى قولٍ مفاده أن التأسيس الفعلي للمسار السينمائيّ يمتدّ في المسافة الفاصلة بين ما بعد التجربة الثانية وما يليها من تجارب. لذا، يبدو "لسّه عم تسجّل" إعلانًا حيويًا وبديعًا عن بداية مسار، تمتلك (البداية) مقوّمات الانشغال ـ الفني والجمالي والفكري ـ بالمعاني المختلفة للصورة السينمائية، وللارتباط الواضح بين فعالية الصورة في توثيق اللحظة ووقائع العيش اليومي في جحيم أرضي.

المساهمون