أيسلندا.. استعادة الأرض من الخريطة

أيسلندا.. استعادة الأرض من الخريطة

19 يناير 2017
(بحيرة المياه الساخنة / تصوير: رولا الحسين)
+ الخط -

عندما أريد أن أتذكَّر موقع  دولة ما بالنِّسبة لموقع دولة أخرى، لا شعوريّا أتذكَّر الَّلوح الكرتوني للعبة "الرِّيسك" الذي تغطِّيه خريطة العالم. على الأرجح أني ركَّزت في هذه الُّلعبة أكثر بكثير مما ركَّزت في خريطة العالم خلال دروس الجغرافيا، كونه كان كفيلًا بأن أتفوّق على خصمي.

استرجاع خريطة لوح لعبة "الريسك" ذهنيًّا كان أوَّل ما فعلته عندما عزمت السَّفر إلى أيسلندا. تذكَّرتُ أَنَّها دولة قريبة من القطب الشَّمالي، بالأحرى تذكَّرت أنَّها قريبة من القسم "الأعلى" من الكرة الأرضيَّة، وأَنَّها جزيرة. كانت هذه المعلومات غير كافية قبيل التَّحضير للسَّفر.

استعنت بغوغل وخرائطه القابلة للتكبير، طُبعت في ذهني صورة أَحدث بتفاصيل أدقّْ لأيسلندا: أوَّلًا أنَّها ليست توأم إيرلندا كما كنت أتخيَّل، ثمَّ أَنَّها محاطة بالمحيط المتجمِّد الشَّمالي والمحيط الأطلنطي، وأَنَّ أقرب دولة تقع "فوقها" هي غرين لاند، المكلَّلة بالثُّلوج وتقع عند شرقها النَّرويج وعند جنوبها بريطانيا. كانت هذه المعلومات الجغرافيَّة كلّ ما يمكنني حفظه، إضافة إلى صغر عدد سكَّانها الذي يتجاوز 300 ألف نسمة بقليل ويتشاركون مساحة تفوق الـ 100 ألف كيلومتر مربعّ بقليل. لبّيت دعوة صديق عزيز وسافرتُ إلى أيسلندا في شهر يناير، وما أدراك ما شهر يناير في أيسلندا!

النّهار متأخِّر، الضّوء متمهِّل، العتمة ليست على عجل، الثلج المتساقط متخفِّف من أي ثقل، السَّماء واسعة، الهواء أنقى من أن تتعوَّد عليه والبرد مختلف عمَّا تعرفه. كل شيء مساحته شاسعة. السَّماء، الضَّوء، الطُّرقات، الظَّلام، الثَّلج، المزارع، الخيول والابتسامات. كل شيء واسع وقريب.

بردٌ كثيرٌ. لكن يبدو أنه لا يطاول الأيسلنديين. طبعًا أولًا لأنهم تعوَّدوه وثانيًا لأنّهم مُجهَّزون، وسرُّ التَّجهيز أن ترتدي ملابس مناسبة وليس ملابس كثيرة، فكثرة الملابس تُعيق الحركة دون أن تُدفِئُك بالضَّرورة. أمَّا الملابس المناسبة فهي عبارة عن حذاءٍ عالٍ لا تخترقه المياه وداخله فرو أو صوف إضافة إلى جوارب قاتلة للبرد، ومعطف مصنوع  من مواد لا تتأثر بالمطر ومحشوَّة وله قبَّعة تُغطي الرَّأس والأذنين معًا.

إقامتي في أيسلندا دامت ثمانية أيّام. كانت أيّاماً باردة جدًّا لأنِّي ارتديت ملابس كثيرة وغير مناسبة. أمضيتُ هذه الأيّام  في العاصمة ريكيافيك، وهي أيضًا أكبر المدن الأيسلندية ويسكنها أعلى نسبة سكان. طبعًا لم أكن أعرف هذه المعلومات مسبقًا ولم أنجح حتى بلفظ اسم العاصمة لظنِّي خاطئة أنني يجب أن ألفظ حرف ال J  في Reykjavik.

مارستُ روتينًا يوميًا، الحصص الصَّباحية من كلِّ صباح أُمضيتها في أحد المقاهي التي أحببتُ من أوَّل فنجان شوكولا ساخنة لي فيه، وحصص أوَّل المساء في مقهى آخر ومشروب دافئ آخر وكتاب. المقهيان يتألفان من طابقين، ألوانهما دافئة، حديثة وحميمة وتناسب مزاجي. عشتُ روتينًا أشعرني إضافة إلى أُلفة النَّاس أنّي أعيش هنا وأمارس طقوسًا يوميَّة تتعدَّى الأيّام الثمانية.

كان من أبرز أهداف الرحلة أن أتمكن من السباحة في مياه بركانية، وكنت سأندم جدًا لو أنني لم أحقِّق هذا الهدف، لكنَّني حقَّقته بعكس هدفٍ آخر. عرفت من خلال مكتب الاستعلامات الموجود على مقربة من المقهى الصَّباحي وحجزت مقعدًا لي في أحد الباصات للذهاب إلى منتجع blue lagoon حيث الجبال البركانية تحيط ببرك المياه الطَّبيعية السَّاخنة في حين تكون حرارة الطَّقس 15 درجة تحت الصفر. لكم أن تتخَّيلوا وكان لي أن أستمتع بروعة وغرابة ودهشة ما عشت وما شعرت وأنا أمضي ساعات خياليَّة وأضع خلالها قناعاً طينيًا على وجهي.

أمَّا الهدف الذي فاتني ولا يجب أن تدعوه يفوتكم، هو مشاهدة ظاهرة الأنوار الشمالية أو ما يسمّى Aurora والتي تتميز بألوان باهرة يطغى عليها اللونان الأخضر والزهري. هدفٌ لم يسمح لي الطقس المتحكم بهذه الظاهرة من تحقيقه. لكنِّي عوّضت عن هذه الخسارة برحلة إلى Thingvellir national park  حيث تمَّ تصوير مشاهد من مسلسل games of thrones الشَّهير؛ متابعو هذا المسلسل بإمكانهم رؤية هذا الموقع عند مشاهدة الجزء الرابع في إحدى الحلقات حيث تدور معارك دموية شارك فيها Brienne و Hound وشاهدت ينابيع ساخنة تفاجئ منتظريها من السياح فتندفع عاليًا فجأة من باطن الأرض باتجاه السماء.

وبين تنقلي بين المنزل الذي حللت ضيفة فيه، والشَّوارع التي مشيتها يوميًا متحدِّية البرد بشالٍ وابتسامة وبين المقاهي التي تنقلت بينها، زرتُ دار سينما صغيرة هي أشبه بنادٍ لشابات وشبان الحي والأحياء المجاورة، شاهدت فيلمًا من إنتاج عام 2013 نال 20 جائزة عنوانه   Hross í oss أو Of Horses and Men أعجبني الفيلم الذي كان ولا يزال الفيلم الأيسلندي الوحيد الذي أشاهده، ودُهشت عندما شاهدت لاحقًا أحد المشاهد التي أعجبتي جدًا مكررة في فيلم the Revenant الذي صدر عام 2015 حيث يفتح شابّ بطن حصان لينام داخله احتماءً من البرد، وكنت قد دُهشت في الأمسية التي تلت المشاهدة أنَّ الشَّاب الذي يجلس معي ومع صديقي هو نفسه الممثل الذي فتح بطن الحصان.

لكن الإعجاب الحقيقي كان اتجاه أمور أخرى. أمورٌ جمّعت معلوماتها وأنا في أيسلندا وليس من خلال خريطة لوح لعبة "الريسك" الكرتونية الملونة. معلومات مثل أنّه في عام 1980 شغلت رئاسة أيسلندا امرأة كانت الأولى في العالم التي تنتخب بالاقتراع العام المباشر، وأنّ أيسلندا لا تملك جيشًا ومعدل الجرائم فيها هو الأدنى عالميًا وشرطتها لا تستعمل أسلحة، وأنها أصبحت تحتل المرتبة الأولى عالميًّا على 147 دولة في المساواة بين الرَّجل والمرأة، كما أنَّ الإنترنت متوفر فيها للجميع، ولا يوجد ماكدونالد في أي مكان في أيسلندا، ومؤخرًا فاجأت مواطنيها ومحبي كرة القدم بفوزٍ غير متوقعٍ على إنكلترا في ربع نهائي كأس أوروبا 2016.

سيكون من الصَّعب عليَّ في المستقبل أن أدمِّر جنود خصمي المحتشدة فوق خريطة أيسلندا على لوحة "الريسك" لأني سأتذكر دائمًا ما قاله صديقي عن أن هديّة الأيسلنديين المفضلة للتبادل فيما بينهم هي الكتب. على الأرجح أني سأنسحب أمامهم بما أن لا جيش لأيسلندا ولا سلاح لشرطتها. فقط كتب لمواطنيها وأضواء شمالية ملوَّنة.

المساهمون