أيحقّ لمُشاركٍ في وثائقيّ منع العرض أم يكتفي بالغضب؟

أيحقّ لمُشاركٍ في وثائقيّ منع العرض أم يكتفي بالغضب؟

08 يونيو 2020
عمر أميرالاي: السينما اولاً (فرانس برس/Getty)
+ الخط -
علاقة المخرج الوثائقي بشخصيات أفلامه مُثيرة دائماً لنقاشٍ غير منتهٍ. التشنّج يُصيب الشخصيات عادة، إذْ يعتقد مُشاركون في أفلامٍ وثائقية أنّ لهم حقّ التدخّل في كيفية تحقيق الفيلم، سينمائياً وجمالياً ودرامياً. ينزعجون من طريقة إظهارهم، وهذا طبيعي، فهم يريدون ظهوراً حسناً يليق بهم، هم فقط، من دون اكتراثٍ بطبيعة العمل ورؤية المخرج ومغزى الموضوع. مسألة التوقيع على اتفاق مسبق مع مخرجي الأفلام الوثائقية، إنْ يحدث هذا أحياناً، لن يمنح أي مُشاركٍ فيها حقّ المنع، إلا عندما يكون المُشارك صاحب سلطة أمنية أو ثقافية أو اجتماعية، ويتمتّع بنفوذٍ مع قوى فاعلة في السلطة، وهذا يحدث في بلدان عربية وعالمثالثية غالباً.

للمخرج الوثائقي حقّ في الاحتيال والمواربة السينمائيّين، شرط عدم بلوغ مرتبة تزوير الحقائق، والتزوير مفضوح في راهنٍ يتمتّع بسبُل كثيرة لكشف المُزوَّر وفضح المزوِّر. هذه طبيعة الوثائقيّ. في بلدانٍ عربية عدّة، يستحيل على مخرج وثائقيّ أنْ يكون "صادقاً" بالمطلق عند اشتغاله في مسائل تمسّ الفرد وهواجسه ووقائع عيشه وأنماط حياته وسلوك اجتماعه. للمخرج الوثائقي حرية شبه مطلقة في كيفية توليف فيلمٍ له وفق ما يرغب في قوله، وإنْ يكن قوله مغايراً لما يتوقّعه مشاركون، يريد بعضهم على الأقلّ صورة تُلمِّع حضوره البهيّ أمام الكاميرا.

مسألة منع "حيّ" للفلسطينية آن ـ ماري جاسر من العرض في مجموعة "أصوات من فلسطين في زمن كورونا" ("العربي الجديد"، 2 و5 يونيو/ حزيران 2020) تُثير هذا الأمر مجدّداً. معلومات تُفيد بأنّ "جهة رسمية" في السلطة الفلسطينية تمنع عرضه، من دون أنْ تُصدر بياناً رسمياً يُبرِّر المنع بوضوح. "فيلم لاب فلسطين"، الجهة المُنتجة للمشروع، تتبنّى كلاماً لجاسر منشور على صفحتها الـ"فيسبوكية"، وتبثّه في مقطع فيديو يُعرض بدلاً من "حيّ" ضمن المجموعة على موقع الجهة المُنتجة. لا ذكر للجهة الرسمية، طالما أنّها مكتفية بالشفهيّ. معلومات تقول إنّ الاستياء "كبيرٌ" لمشاركين في الفيلم، من كتّاب وفنانين فلسطينيين مُقيمين في فلسطين المحتلّة وخارجها. إلى الآن، لا بيان يوضح المسألة من المستائين، بل مجرّد تعبيرٍ متشنّج لبعض قليل منهم، يقول توتراً عن صورة تُسيء إليه.

معلّقون يقولون إنّ المشاركين رافضون عرض الفيلم لأنّه يُشوّه صورتهم ويُظهرهم جهلة في التقنيات الحديثة. هذا يُعيد طرح السؤال الأساسي: يحقّ لمُشاركين في أفلامٍ وثائقية التعبير عن رفضٍ واستياء وغضبٍ، أما المنع فتتولاه جهة رسمية تملك هذا "الحقّ" المرفوض أصلاً. وإنْ يكن لبعض المُشاركين "نفوذٌ" في السلطة، فهذا يعني أنّ الجهة الرسمية "خاضعة" لكتّابٍ وفنانين لديهم نفوذ قوي في الأمن والسياسة والمال (!). هذا ليس غريباً في عالمٍ عربيّ تتداخل فيه وظائف ومهن بنفوذ وسلطات.

أفلامٌ وثائقية عربية عدّة تعاني حالة كهذه. السوري الراحل عمر أميرالاي أكثر السينمائيين الوثائقيين العرب تعرّضاً لسجالٍ كهذا، لقدرته الجمالية والفنية والثقافية والفكرية على التحايل والمواربة، بهدف صنع أفلامٍ تُعرّي وقائع وتفضح مخبّأ، وتتعرّض للمنع والمطاردة. مُشاركٌ في "عندما يأتي المساء" (2000) للّبناني محمد سويد يعترض على طريقة إظهاره في الفيلم، شارحاً تفاصيل تتعلّق بالتصوير والتوليف يراها غير ملائمة لما يقول ويتصرّف أمام الكاميرا، لكنّه لا يُطالب بالمنع، فهو يُدرك أنّ هذا مرفوضٌ ثقافياً وفنياً. مشاركون في "جنوب" (2008) للفلسطيني نزار حسن يتمنّعون عن حضور عرضه البيروتي الأول، بعد اكتشافهم في عرضٍ خاص أنْ تصويرهم مغاير للمتّفق عليه، وغير مُعبِّر عنهم.

هذه أمثلة تكشف استحالة التوفيق بين مخرج وثائقي وشخصية مشاركة في فيلمٍ له. الاتفاق بينهما يكون شفهياً، والتوقيع على اتفاق مكتوب، إنْ يحدث، غير متنصِّلٍ من حرية المخرج في التصرّف بالمادة المُصوّرة وفقاً لمتطلّبات العمل. هذا يأتي بعد لقاءات يتحفّظ المخرج فيها عن البوح بالتفاصيل كلّها، لأنّه يصنع فيلماً سينمائياً لا ريبورتاجاً تلفزيونياً. صحيحٌ أنّ مخرجين وثائقيين يجهدون في بناء ثقة بينهم وبين المختارين لأفلامهم، لكن غالبية المختارين تتبدّل كثيراً عند حضور الكاميرا، ما يؤذي المشروع والاتفاق والثقة. القول باتفاق مكتوب غير سليمٍ لعملٍ سينمائي، وإنْ يحصل فالغلبة للمخرج (وللمنتج أيضاً، ولهذا نقاشٌ آخر) لا للشخصية، لأنّ الفيلم له واللقاءات توضح هذا. الثقة بعد الاطّلاع على بعض أبرز مسائل المشروع أهمّ بكثير، لكن المأزق أنّ مشاركين ينتفضون أمام الكاميرا، ويُغيّرون مواقف وآراء وتفاصيل وحكايات، بشكلٍ كبير، عند البدء بالتصوير.

أقصى ما يُمكن لمُشارك مستاء وغاضب أن يفعله يكمن في التقدّم بشكوى أو بدعوى أمام جهات مختصّة بـ"جرم القدح والذم" أو "التشويه والإساءة"، إنْ يكن للقانون قولٌ في هذا. والقضاء، إنْ يكن نزيهاً ومستقلاً في العالم العربي، كفيلٌ بتبيان المسألة، التي يصعب كثيراً أنْ تبلغ مرتبة المنع من العرض لأسبابٍ كهذه، فالمنع العربي متأتٍ من "تشويه صورة السلطة والبلد" و"الإساءة إليهما"، بمفهوم السلطة طبعاً.

لذا، على المستائين والمستاءات في "حيّ" إصدار بيان، وليس ممارسة تشبيحٍ كلامي "فيسبوكي" متوتر. على الجهة الرسمية أن توضح علناً لا أنْ تغيب، وعلى المخرجة والمنتج أنْ يقولا وقائع مؤكّدة، إنْ تكن موجودة.

المساهمون