أيا صوفيا وهذا البيان

أيا صوفيا وهذا البيان

21 يوليو 2020

(Getty)

+ الخط -

بلا أي تأتأة، من حق أي مثقفٍ أن يرى ما يراه في إعادة تركيا متحف أيا صوفيا في إسطنبول مسجداً. وربما من شديد الضرورة تأشير أصحاب الرأي إلى تداعياتٍ قد تنجم من هذا الأمر، على غير صعيد، سيما المتعلقة باحتكاك الثقافات ومراجعات التاريخ وقيمة التعدّد وضرورة النأي عن كل ما يغذّي أسباب الكراهية والصدام بين الأمم. وبالنظر إلى تبايناتٍ في وجهات النظر التي استُقبل بها القرار التركي الذي جاء إنفاذاً لقرار قضائي، يظلّ محموداً أن يبقى النقاش حيّاً في هذا الشأن، على أن يُحرز المشاركون فيه المصداقية اللازمة، وهم يناوئون ما تقرّر بشأن أيا صوفيا، أو يتحفظون عليه، أو يتفقون معه. ومن موقع غير المتحمّس للقرار، يجد صاحب هذه الكلمات نفسَه متفقاً، بمقادير معينة، مع بعض ما اشتمل عليه بيانٌ ذاع قبل أيام، وقّع عليه مثقفون وكتّاب وعلماء وفنانون، عربٌ وفرنسيون، عارض بشدة تحويل الصرح الكنسي القديم، والمتحف منذ نحو تسعة عقود، مسجداً، غير أن حزمةً من القضايا تحسُن إثارتها بشأن البيان، وصدورا، في كل الأحوال، عن حقّ الموقعين عليه بالتعبير عن آرائهم بحرية.
يتغافل البيان عن مسار القضية الذي ذهبت فيه مسألة أيا صوفيا إلى محطّتها الراهنة، ويكتفي بالطعن في الرئيس التركي، أردوغان، ولا يأتي إلى مجرى الدعاوي القانونية فيها، مقنعةً هذه لأصحاب البيان أو غير مقنعة. ولا يكترث البيان بما أذاعه المسؤولون الأتراك من حجحٍ تسند إنفاذهم قرار محكمةٍ مختصة، ويكتفي بتبخيس القول إن المسألة سيادية. وكان من وجوب الموضوعية أن يُؤتى على هذا، وعلى إعلان أردوغان جاهزية أيا صوفيا، مسجداً، لأن يزوره الجميع. ولمّا جاء البيان على ما يراه أصحابُه مفاقمةً للتوترات العاطفية، تسبّبت بها الواقعة المعلنة أخيراً، وكذلك على "استغلال التاريخ" و"تزوير الأيديولوجيات"، وعلى خطورة إحياء ذلك كله وغيره، فإن من حق قارئ هذه الهجائيات، على ما قد يُرى في بعضها من وجاهة، أن يطالع إحالاتٍ موجزةً إلى وقائع ومحكّات غير قليلة، تسببت بكثيرٍ مما يتخوّف منه أصحاب البيان، المثقل بالانفعالية، عندما مارس غزاةٌ ومستعمرون، وفاتحون ومنتصرون، في الغرب والشرق، تحويل مساجد إلى كنائس، وتحويل كنائس إلى مساجد، تبعاً لمنطق الغلبة والتغلّب. كان في وسع من صاغوا البيان أن يأتوا على هذا الأمر، لأهميته، من باب رفضه كما أرادوا، ولإيضاح أن الذي تقرّر لأيا صوفيا أخيراً مماثلٌ لكثيرٍ جرى في غير محطّة تاريخية. وهم الذين لم يصيبوا أبداً في بيانهم عندما شابهوا القرار الذي صادق عليه أردوغان بفسادٍ للتاريخ في القدس وفلسطين، في جملةٍ شديدة الاقتضاب، بدت كأنها نافلة، ربما جرى دسّها لترضية موقّعين محدّدين على البيان. لا صلة قرابة أو مشابهة من أي نوعٍ باعتداءاتٍ لم تتوقف على عشرات المساجد والكنائس في الأراضي الفلسطينية، ارتكبها الصهاينة، سيما من عصاباتٍ محميةٍ من سلطة الاحتلال التي عمدت، غير مرة، إلى تحويل مساجد إلى إسطبلات ومواخير ومخازن. وقد رصدت منظمة إسرائيلية، مثلاً، إحراق 46 مسجداً و12 كنيسة في بلدات فلسطينية، في عشر سنوات فقط.
وإذ تصدّر اسم الشاعر أدونيس قائمة موقّعي البيان، فإن المرء يعجب من وجود أسماء غير قليلة، بلا أي حيثيةٍ ثقافيةٍ أو إعلاميةٍ وازنة بينهم، غير أنك تلحظ بيسرٍ أن الغالبية العريضة من ناس البيان هذا، العرب تعييناً (لا دراية لدى كاتب هذه السطور بالفرنسيين)، مجتمعون مسبقا على نصرتهم نظام الأسد، النظام الذي استهدفت قذائفه كنائس ومساجد كثيرة، في حربه الراهنة على الشعب السوري، فليس تنظيم داعش الإرهابي وحده الذي اقترف مثل هذه الجرائم، على ما أوحى البيان عندما رمى أردوغان باتهامه بدعم الدواعش، فليست منسيةً، مثلاً، كاتدرائية القديسيْن في بصرى الشام التي ضربتها قذائف النظام في 2013، ولا كنيسة الروم الأرثوذكس في حرستا، وغيرهما، وكذا إحراق الجامع الأموي في حلب، وضرب أكثر من 700 مسجد سوّي بعضها بالأرض، في العامين الأولّين بعد اشتداد الثورة السورية في 2011. 
.. لا مصداقية لك عندما تناصر شاعراً معتقلاً في العربية السعودية، وأنت تخرس بشأن مذابح مهولة واعتقالات بلا عدد في سورية. لا مصداقية للطخّ الذي تمارسه، ولو باللغة الفرنسية، على أردوغان، عندما تخوض بعيونٍ حولاء في شأن أيا صوفيا، وأنت أصمّ وأعمى عن موبقات بلا عدد في سورية وغيرها .. كان بياناً محقّاً في مخاوفه، وغير محقّ أبداً في بواعث كثيرين وضعوا أسماءهم عليه.

معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.