أو كما قال عزت!

أو كما قال عزت!

08 سبتمبر 2020
+ الخط -

الكتابة أرزاق. أحياناً تسعى وراء فكرة تكون ممتلئاً بها إلى حد الجنون لدرجة أنك تعجز أحيانا عن امتلاك مهارة التخلص منها في مقال، ثم تفاجأ بأن كاتباً آخر سبقك إليها، فحرقها وحرق قلبك عليها، وبعد أن تقرأ ما كتبه، أحياناً تفرح حين تكتشف أن الفكرة المحروقة كانت تافهة جدا وكنت ستتورط في كتابتها، وأحياناً تغار لأن غريمك في الفكرة كتبها "حلو"، ومن زاوية لم تخطر لك على بال، وحينها تبدأ في التفكير في تغيير نظامك الغذائي الفاسد الذي بدأ ينعكس سلباً على قدرتك على الكتابة، وفي الغالب الأعم تستشيط غيظاً لأن الكاتب الذي سبقك إلى الفكرة قام بتعويرها بكتابة رديئة متعجلة، فلا هو أكرمها وعاملها بما تستحق، ولا هو تركها تأكل معك من خشاش الأرض.

أما الشعور النادر الذي لايحدث معي كثيراً، ربما لأنني في ما يخص بالكتابة لا أتمتع بالأريحية كثيراً، هو أن أفرح بمقال كتبه غيري، لأنه أراحني من عناء الامتلاء بفكرته طويلاً، خصوصاً لو تأكدت أنني كنت سأفشل في كتابته كما يستحق، عندها أغرق في خيال شخصي آثم يتصور الكتابة لعبة جماعية، فأراني بعين خيالي "أباصي" لذلك الكاتب الفكرة التي لا أستطيع كتابتها، ليصنع منها هدفاً ساحقاً ساحراً تطرب له النفوس وتستمخّ منه العقول، فأفعل كما يفعل المدافعون ولاعبو خط الوسط في مباريات الكرة، أجري مع وأحياناً قبل الحرّيف/ الكاتب الذي أحرز المقالة/ الجون إلى المدرجات فرحاً متهللاً مهللاً، وكأنني الذي جبت المقالة/ الجون مع أنني لاناقة لي ولا يسري الجمل في إحرازها/ كتابتها.

لا أستطيع أن أحصر على وجه التحديد المرات التي شعرت فيها بهذه المشاعر الآثمة، ليس لأنني لا أملك قائمة حصرية بها، بل لأنني لو فعلت ذلك سيكتشف كثير ممن لا يعرفون أنني أحب أشخاصهم أكثر من كتاباتهم أن لهم مكاناً مكيناً في قوائم أكاذيبي البيضاء والاضطرارية. سأفعل ذلك يوماً ما عندما أمتلك شجاعة أكثر وشقة بعيدة عن وسط البلد.

يكفي الآن أن أعترف لك أنني قرأت/ شاهدت مقالا / جوناً ساحراً مارادونياً أحرزه الصديق/الكابتن عزت القمحاوي ونشرته صحيفة القدس العربي، تحت عنوان جميل ومثير للانتباه هو" بليداً ومطمئناً كحجر"، وحين قرأته وقعت في غرامه غراماً من ذلك الذي يعمي ويصم، وإلا لما كنت فكرت في السطو عليه وكتابته بإسمي ليصبح أفضل ماكتبت، قبل أن أنتبه إلى أن هناك الآلاف من القراء سيكتشفون ذلك فضلاً عن عمنا الجميل حسنين كروم الذي لن يتورع عن فضحي فضيحة "خالدة الذكر"، لذلك استغفرت الله وشلت الفكرة من دماغي، لكنني لم أقو على أن أكتفي من حب المقال بقصه والإحتفاظ به، خاصة أن ما بثه عزت في المقال من حزن وهم، هو حزني وهمي الذي ظل يبرّحني ولا يبارحني طيلة ثلاثة أشهر على الأقل، الفرق أنني فشلت في بثه ونجح عزت في ذلك، لكن هل يعني ذلك أن أترك الفرصة لعزت لكي يهنأ بنجاحه، تيجي إزاي؟

أريد أن أعرف كيف استطاع بورخيس أن يكون عدة براخسة في ظل واقع كان كفيلاً بتحطيم البورخيس الواحد؟ هل عاني بورخيس مما يعانيه الكاتب العربي أم أن حصارنا أكثر إحكاماً من حصار الأرجنتين؟

لذلك هداني شيطاني إلى فكرة آثمة هي أن أنشر المتن القمحاوي مختلطاً بحواشٍ بلالية صاخبة، تربك القارئ فلا يعود يدرك ما كتبه عزت مما كتبته، ويتفرق دم المقال بيننا فينالني من سحره جانب، المشكلة أن الفكرة أرسلها لي شيطاني في نهار رمضان وهو مسلسل، فلم يكن "السيجنال" قوياً، لذلك سرعان ما استغفرت الله وتبت وأنبت مقرراً أن أكتفي بنيل شرف نشر المقال كما هو، قامعاً كل مشاعر التمحك في المقال، ومكتفياً بهذه المقدمة التي اتبعت فيها منهج الذين يقفون بغتاتة خلف الحاصلين على الجوائز في برنامج طارق علام الشهير (كلام من ذهب)، ليفسد وجودهم في الصورة أي رغبة عارمة للفائز في الاحتفاظ بشريط الحلقة. 
أتركك الآن مع "مقال/جون" عزت القمحاوي: 

"من غيرنا نحن العرب يفتح عينيه في الصباح أو بعد قيلولة مؤرقة ليجد الأوراق والمستندات تتطاير في وجهه؟ أناس منا يزعقون وهم يلوحون بوثائق الاختلاس أو الخيانة والموالسة. الوثائق التي تخرج علينا في برامج الفضائيات صباح مساء هي نفسها التي تستلقي علي صفحات الصحف مثل قتلى علي الطريق لم يتعرف على جثامينهم أحد.

من غيرنا محروم من لحظة سكينة، من حق الراحة، حق اللعب الضروري لتجدد الحياة وتجدد الكتابة؟ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لم ينص علي الحق في اللعب، لكنه أورده ضمناً في إطار الحق في الراحة وأوقات الفراغ. وهذا البند من بنود الإعلان لايلتفت إليه في بلادنا، إذ لا يمكن الوصول إليه إلا بعد إقرار حق العمل بأجر عادل،  وباستثناء مواطني دول الخليج فإن هذا الحق يصبح يوماً بعد يوم أبعد عن أحلام المواطن العربي.

في لائحة الحقوق يتقدم حق التعبير علي حق العمل بأجر عادل، والأخير بدوره يتقدم علي الحق في الراحة. وهذا هو الطبيعي حسب المنطق والمخيلة السوية التي وقفت وراء هذا الإعلان الطموح، فحق التعبير يمكن أن يحمي موارد الأوطان فتتوفر فرصة العمل المأجور جيداً، الذي يوفر بدوره حق وقت الفراغ. لكن بعض الديكتاتوريات العربية لم تعترف بحق التعبير من أساسه، بينما استطاعت مخيلة الشياطين في ديكتاتوريات أخرى أن تجعل من حق التعبير شيئاً عديم النفع!

وفي الحالتين لم نصل إلى فرصة الجزاء العادل عن العمل. في ظل السكوت، وفي ظل الحق المنقوص في الكلام، نلهث في أشغالنا وعندما نلتقط أنفاسنا أمام شاشة تليفزيون أو بين سطور جريدة نجد الصياح، ونطلع على مستندات تدين أنظمة قليلة الحياء، وعلى الرغم من نوايا الصارخين والمشاهدين الطيبة لا تنجح المستندات إلا في زيادة قنوطنا وغربتنا.

حولوا بصلابتهم في الباطل حق التعبير إلى مسخرة، والنقد إلى نوع من اللذة الذاتية المؤلمة التي لاتخلف وراءها سوى الإحساس بالوحدة والخواء! آذونا في حيواتنا وفي كتابتنا. كل من ليس منهم صار صيّاحاً أو مستمعاً إلي الصياح، فكيف يكون شكل المداعبة التي يمكن أن يقدم عليها في المساء عاشق يمضي نهاراته في الصراخ، هل يمكن أن يثق في قدرة الابتسام أو رفة الرمش أو ارتعاشة الشفة في توصيل رسالة الحب؟!

الحرمان من الرهافة هو أحد الاعتداءات على المستقبل التي لن تغتفر للدكتاتورية. والإيذاء الذي تصيب به ملكات الحب هو نفسه الذي توقعه بالكتابة. وهذا وذاك خسران لا يمكن تعويضه. وليست الديكتاتورية وحدها ما يؤذي الحب والإبداع لكي نكون منصفين، بل الاحتلال، وهو ليس بعيداً أو منفصلاً عنها بالمناسبة، فكلاهما يتقوى بالآخر.

إنه الحصار إذ يحكم قبضته، فيؤذي الحب ويُكره النص على اقتراف الشعار، أو يستنفد عمر الشخص فيما لا ينفع، ويسلبه حق اللعب في كتابته أو على الأقل الاستمتاع بألعاب الآخرين.

الخيبة تجري وراء الخيبة، والكاتب يشعر بالواجب تجاه جدار يميل متصوراً قدرته علي تقويمه، ولا يتعظ من كثرة الذين دفنوا تحت جدران مالت ثم اضطجعت فوقهم، إما لأنهم انصرفوا عن إبداعهم بشكل كامل، أو لأنهم لم يتمكنوا في إبداعهم من التخلي عن الصوت العالي الذي يصرخون به في مقالاتهم كل يوم.

الصوت العالي صار فرض عين، يحرم الحب والكتابة من الصفاء، ويحرم المحب والكاتب من لحظة ينسي فيها الانتماء إلى هذا الجزء الحزين من العالم.

أحد أحلامي المستحيلة أن أجمع كتبه وأجلس لأتعرف على أبعاد هذا الكاتب، كاتب واحد يا ربي، أريد أن أطمئن إلي معرفته

النسيان!  لماذا لم ينص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على هذا الحق، على الأقل لمن يؤلمهم التذكر؟!

حتى لو لم نحب أو نكتب، لدينا الكثير مما يمكن أن نقرأه بحب لو تمتعنا بقليل من وقت الفراغ، بقليل من نسيان ورطة الوجود هنا.

لدينا ـ على الأقل ـ ألف ليلة وليلة؛ النص الذي تتوالد فيه المتعة كما تتوالد في حياتنا الآلام. أحلم بمتابعة مشروع مستحيل لقراءة ألف ليلة حتي نهايتها أو نهايتي، أيهما أقرب لأستمتع بألعاب مبدعيها العظماء المجهولين الذين انتقموا من السلاطين والملوك بهذا الخيال الداعر ضدهم، والذين أشبعوا جوع مستمعيهم إلى الطعام والجنس بالموائد العامرة والفًرش الناعمة والحمّامات العطرة. وإن لم تكن ألف ليلة، فلدى كل منا كاتب واحد على الأقل يحتاج إلي أعمار من الإبحار في عالمه؛ بورخيس العجيب مثلاً، كلما قرأنا نصاً وتوهمنا أننا عرفناه ينبثق بورخيس جديد من قصة أو قصيدة أو عبارة أخرى!

أحد أحلامي المستحيلة أن أجمع كتبه وأجلس لأتعرف على أبعاد هذا الكاتب، كاتب واحد يا ربي، أريد أن أطمئن إلي معرفته.

القليل يا ربي من وقت الفراغ، القليل من الصبر والنسيان؛ لأعرف من كان النمر الذي يحلم دائماً بأنه يلتهمه؟ هل كان ذلك النمر هو الزمن، هل كان الديكتاتور خوان بيرون، هل كان بورخيس ذاته هو النمر يحلم بأنه إنسان يلتهم الكتب؟!

أريد أن أعرف كيف استطاع بورخيس أن يكون عدة براخسة في ظل واقع كان كفيلاً بتحطيم البورخيس الواحد؟ هل عاني بورخيس مما يعانيه الكاتب العربي أم أن حصارنا أكثر إحكاماً من حصار الأرجنتين؟ وهل كان من الممكن أن يتمتع بهذه الإمكانية لو احتفظ ببصره أم أنه كان محظوظاً بالاختباء في العمى؟ وهل علينا أن نصاب مثله بالعمى لنعيش ونحب ونكتب؟مخبأ قاس، لم يطلبه أحد بعد أوديب، ونحن لم نرتكب ذنباً. ومن حقنا الاختباء في مكان ألطف، وليس ألطف من النوم عندما يكون الصحو بهذه الكلفة.

أريد أن أنام وأحلم بأن كل شيء في مكانه، وأنني لست مضطراً إلى قراءة كتب في الاقتصاد الذي لا أحبه، أو إنفاق الوقت في إحصاء المليارات الهاربة من صفحات الاقتصاد إلى صفحات الجريمة بالصحف، وأنه لن يكون مطلوباً مني أن أشجب سرقة أو اعتقالاً أو احتلالاً.

أريد أن أنام ولو بلا أحلام، بلا فرحة، بلا أحزان، مطمئناً وبليداً كحجر". 

ومين سمعك ياعزيزي عزت. ومين سمعك؟.

...

نشرت السطور التي قرأتها الآن في زاويتي اليومية بصحيفة (الدستور) عام 2007، وكنت يومها أدخل عامي الثالث والثلاثين، وها أنا اليوم أدخل نحو عامي السابع والأربعين، وقد أصبح ما كان يشكو منه عزت القمحاوي حلماً بعيد المنال يتمناه كل الذين فقدوا قدرتهم حتى على الصياح،  فاللهم لا اعتراض، فقط نسألك أن تحقق لنا قبل أن نموت حلم عزت القمحاوي في أن ننام مطمئنين بلا أحلام ولا فرحة ولا أحزان.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.