أوّل "صعيدي" في اليابان

أوّل "صعيدي" في اليابان

01 سبتمبر 2015
+ الخط -
تظل "الرحلة اليابانية" للصحافي الأزهري علي أحمد الجرجاوي، من غرائب الرحلات وأطرفها، فهي على سموّ هدفها وجودة أسلوبها وحبكتها في نظر بعض الباحثين، فإنها "مُفبْرَكةٌ" ومضلّلة، أو على الأقل تحمل الكثير من المبالغة في نظر آخرين. أو لعلها في أصلها عملٌ أدبي انطلق خيال مؤلفه من بعض الوقائع الحقيقية.
لا يزال الباحثون في ريبة من أمر الرحلة التي لم يشفع لصاحبها قوله: "وكلّ ما ذكرته في رحلتي ليس له مصدر إلا المدونات الرسمية التي نقلت عنها، أو المشاهدة الحسية، أو السماع من أوثق المصادر؛ لأن تدوين الرحلات وتدوين الحوادث التاريخية صنوان، فإذا لم توفّق فيها بالخبر الصحيح كانت أساطير وأباطيل، بل جناية كبرى يجتنيها على الإنسانية والآداب"!
نشرت الرحلة سنة 1907، في كتاب يحمل اسم "الرحلة اليابانية"، وظل مؤلفها حيّاً إلى سنة 1961، غير أن أحداً من معاصريه والمقرّبين منه لم يراجعه في أمرها. حتى إذا مات لم يصادف الباحثون سوى إشارات يسيرة، بعضها يؤكد مروره باليابان وبعضها يشكك في بلوغه لها.

كولمبوس الصعيدي

يزعم علي أحمد الجرجاوي، نسبة إلى جرجا في صعيد مصر، أنه مكتشف اليابان الأوّل من المصريين؛ فيقول: "حسبي شرفاً أنها رحلة أول مصري وطئت قدماه أرض اليابان من قديم الزمان". وكانت اليابان قد علا شأنها، وبدأ العالم يهتم بأخبارها بعد انتصارها المدوي على الغزاة الروس سنة 1905، وكانت غاية الجرجاوي من رحلته أن يعرّف اليابانيين بالإسلام، ويدعو إمبراطورهم إليه.
لم يجد الجرجاوي أذناً صاغية بعد مناشداته للأزهر لإرسال وفدٍ دعوي إلى اليابان؛ فاعتمد على نفسه، وباع من ممتلكاته خمسة أفدنة زراعية ليستعين بثمنها على رحلته الطويلة، إلى أن وصل لليابان وأقام فيها 32 يوماً، صادف فيها بعض الأفراد من الدعاة أمثاله من الصين والهند وتونس، كما وجد أن السلطان العثماني أرسل وفداً للمشاركة في المؤتمر.
وفقاً لزعمه، فقد كلّلت رحلته بالنجاح إلى حدٍّ كبير، لدرجة أنه أسلم على يديه 12 ألف ياباني، كما أن الإمبراطور الياباني قد اقتنع بكلامه، وكاد أن يدخل الإسلام، لكنه خشي أن يؤمن قبل أن يؤمن وزراؤه. وهو يصف المؤتمر بأنه كان ناجحاً في بدايته، غير أنه انتهى دون أن تعلن الحكومة اليابانية أي نتائج له.
يهدي المؤلف مغامرته للناشئة من الشباب التي هي موضع آمال الأمة، ويبرر توجهه للشباب بقوله: "أجدر بالشبيبة المصرية أن تطالع مثل هذه الرحلة ليروا أن في الشرق أمة في الثلاثين ربيعاً من سني حياتها الجديدة تنظر إليها الأمم الأخرى نظر الإجلال والاعتبار، حتى إذا قرأوا ما لم يصل إلى علمهم عنها دبّت في نفوسهم الحميّة، فنزعوا رداء الكسل، وقالوا حي على خير العمل".

حقيقة أم خيال؟

تعرّضت رحلة الجرجاوي للعديد من الانتقادات، فقد شكك المرحوم حسام تمام في إسلام العدد الضخم من اليابانيين في هذه المدة القصيرة، ورأى أن فيها مبالغة كبيرة. وإذا كان التنقيب في الصحف القديمة يكشف أن مؤتمراً فعلياً عقد في تلك الأثناء، فإن موضوعه كان الحوار والتعاون بين الأديان، لا كما ذكر "الجرجاوي" من أنه أقيم بطلب من الإمبراطور لبحث أنسب الأديان وأفضلها للشعب الياباني.
الدكتور صالح السمرائي الذي كان رئيساً للمركز الإسلامي في طوكيو بالسبعينات حاول تتبّع الرحلة، وتشكّك في وصف الجرجاوي الدقيق لطوكيو ومبانيها وأسماء شوارعها، ورأى أن الجرجاوي قدم وصفاً يدلّ على أنه لم يرَ طوكيو أبداً.
بعض الآراء تحتمل أن يكون الجرجاوي قصد اليابان لكنه ضلّ طريقه ووصل إلى هونغ كونغ وتايوان، وظن أنها اليابان، كما رأى عدداً غفيراً من مسلمي الصين فظن أنهم ممّن تحوّلوا إلى الإسلام، وذلك وفقاً لما رواه الشيخ "مولوي بركة الله" في مجلة "الأخوّة الإسلامية" سنة 1910، وعبد الرشيد إبراهيم في كتابه "عالم الإسلام" عن أن عربياً، لم يذكر اسمه، ذهب للدعوة في بلاد المشرق وحدث له ذلك! وعبد الرشيد نفسه يذكر أنه قابل وزير خارجية اليابان في ذلك الوقت، وقد ذكر له الوزير أن مصرياً جاء إلى اليابان يريد دعوة الإمبراطور إلى الإسلام، لكنه لا يدري هل وفّق الرجل في مقابلة الإمبراطور أم لا؟!
بعض الباحثين اليابانيين أراد تتبع الرحلة من السجلات التاريخية، فصرح بأن الجرجاوي فعلاً نزل في ذلك التوقيت في فندق "غراند هوتيل" أمام ميناء يوكوهاما، وأنه وجد ذلك في سجلات الفندق سنة 1981، لكن باحثين آخرين ذهبوا للفندق سنة 1993 فلم يجدوا ذلك، واعتذروا بأن ملكية الفندق تغيّرت، وضاعت معها السجلات القديمة.

رحلات أخرى

لم تكن رحلة الجرجاوي الرحلة العربية الوحيدة التي ذهب فيها عرب إلى اليابان في تلك الفترة المتألقة من تاريخ اليابان؛ فقد كانت هناك رحلة يابانية مهمة قام بها الأمير محمّد علي، وهو رحّالة من العائلة الخديوية، إذ انطلق في أوّل أبريل/ نيسان 1909، من الإسكندرية منتقلًا إلى موسكو عبر إيطاليا والنمسا، ثمَّ استقلَّ القطار في سيبيريا وصولًا إلى الأرخبيل الياباني وما جاوره من بلدان، واستغرقت رحلته شهرين ونصف الشهر. وفيها قدم مشاهداته، ووصف أحوال البلاد وتاريخها وجغرافيتها التي مرّ بها، وذكر طبائع وأهل تلك البلدان وعاداتهم.
وكان التوجه إلى اليابان في مطلع القرن العشرين عامّاً، إلى درجة أن يقول عباس محمود العقاد إن عدداً من الضباط المصريين افتتنوا بانتصار اليابان فذهبوا إليها وتطوعوا بالجيش الياباني وتزوجوا يابانيات، وأنجبوا الأولاد، فمنهم من عاد إلى مصر ومنهم من بقي.

المساهمون