أوهام كوشنر في فلسطين

أوهام كوشنر في فلسطين

11 يوليو 2019
+ الخط -
بدا صهر الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، ومستشاره، جاريد كوشنر، في الورشة التي استضافتها المنامة أخيرا، في هيئة أستاذ شاب يلقن دروسا لطلبة جاءوا تسكنهم الدهشة والفضول لاكتشاف أسرار ما كان يخفيه مخطط هذا المستشار المقرّب جدا من رئيس أكبر قوة في العالم. واللافت أنه يشبه، إلى حد بعيد، الرئيس الفرنسي الأربعيني، مانويل ماكرون، المعجب أيضا بلغة الأرقام، ويتقن صناعة الأحلام وصياغة الكلمات التي تنشط المخيلة، وتفتح أمامها الآفاق الرحبة. 
نحو أربعين صفحة تؤلف مخطط جاريد كوشنر عن التنمية والازدهار في فلسطين، لم يرد فيها أي ذكرٍ لمفردة احتلال ولو مرة واحدة، علما أنه في كل المبادرات والمساعي التي بذلت لتسوية النزاع الفلسطيني – الإسرائيلي كان هناك حد أدنى من الوضوح في تسمية الأشياء بمسمياتها. ولكن يبدو أن التمرين الدبلوماسي لكوشنر الذي غلّف بلبوس أسطوري شكل علامة من علامات التراجع المحزن. بل يمكن القول إنه نوعٌ من العمى الاستراتيجي، ودلالة على قلة التجربة في قراءة تاريخ القضية وطبيعتها، وانعدام القدرة على جسّ نبض الشارع الفلسطيني والعربي.
كوشنر المستشار المدلل هو بكل تأكيد المهندس الفعلي لمخطط السلام الذي حمله باعتباره مفاجأةً، كان يرغب في أن تزلزل إيجابيا مكونات النزاع، فرافع عن مخططه هذا، وما زال، بحماس وحرارة، صدورا عن قناعته بأن القاعدة الاقتصادية هي روح السلام، فهو يسعى إلى تحقيق استثمارات قد تصل إلى 50 مليار دولار، حسب تقديراته الاعتباطية، مصدر هذا المبلغ القطاع الخاص ودول مانحة. وبتناغم مع هذه الوصفة السحرية، تدّعي الإدارة الأميركية عزمها توفير مليون فرصة عمل للفلسطينيين، ما يعني وضع حد للبطالة التي فاقت كل النسب، خصوصا في قطاع غزة، ومضاعفة الناتج الداخلي الخام الفلسطيني، وتقليص الفقر إلى النصف في الضفة الغربية والقطاع.
وتبدو الوثيقة التي أشرف عليها جاريد كوشنر، وتفصل المشاريع المزمع إنجازها، والأهداف 
التي تود تحقيقها، مغرية وذات جاذبية لأول وهلة، فيما هي مضللة وخادعة عند التأمل في أغراضها البعيدة. إنها مصدر آخر للإحباط والإ لم، فلغتها يلفها كثير من الخيال السياسي والاقتصادي الجامح، بما في ذلك تحويل فلسطين إلى نظام قوي وعصري، سيجر وراءه نموا اقتصاديا وصناعيا، إضافة إلى تحرير القدرات والطاقات والممكنات الاقتصادية، وتحسين آليات الحوكمة، ليوهم المخطط جمهوره بأن فلسطين كأي بلد عادي له مكونات دولة، ينعم بسيادته ومؤسساته المستقرة وعملته الوطنية، وليس بلدا محتلا ومحاصرا ومقموعا، دمرت إسرائيل كل مقوماته، ونسفت تطلعات شعبه في بناء دولته المستقلة.
والمفارقة الغريبة عندما يدعو مخطط كوشنر للسلام والازدهار إلى تحويل الضفة الغربية وقطاع غزة إلى جنة تجارية واعدة بالخير العميم والثروة الهائلة، علما أن هذه المناطق تعيش في حصار يومي، ولا إمكانية لها لمراقبة حدودها والتصرّف في مقدّراتها، ولا تتوفر على بنياتٍ تحتية تؤهلها لتلعب الدور الذي يتوخاه الحالم كوشنر، فمشروع ميناء غزة الذي وضع حجر أساسه في يناير/ كانون الثاني 1996، بحضور الرئيس الراحل ياسر عرفات ورئيس الوزراء الهولندي الراحل فيم كوك، في يوم ماطر وعاصف، وكنت حاضرا في تلك المناسبة، لم يتحول إلى شريان اقتصادي، مع أن فرنسا وهولندا وألمانيا تكفلت بتمويله، بعد إنجاز الدراسات والتصاميم ودراسة العوامل البيئية، وتحديد المنطقة التي سيقام عليها المشروع. ولكن التحولات الدرامية التي عصفت بكل الأحلام، وسياسة القبضة الحديدية المستمرة التي طبقتها إسرائيل، والاعتداءات المتتالية التي أشعلتها على مراحل، ونشوب صراعات مأساوية بين حركتي فتح وحماس، كلها عوامل أجهضت كل المشاريع الضامنة لشيء من التحسن الاقتصادي. وينطبق الأمر نفسه على مطار غزة – رفح الدولي الذي أشرف على بنائه المكتب الوطني للمطارات في المغرب، وتولت بناءه شركة "المقاولون العرب"، فهذا المشروع الحيوي الذي كانت السلطة الوطنية الفلسطينية تراهن عليه، ليكون نافذتها على العالم، وشريانها الحيوي، أصبح أطلالا، بفعل الاعتداءات العسكرية الإسرائيلية. وأتذكر جيدا أنني عندما زرت هذا المطار، لمست جرعة عالية من الحماس والأمل لدى الفلسطينيين هناك. ومن وقف على إيقاع الأشغال وقتئذ، وكان قد أنجز جزء كبير منها، كان سيغشاه الشعور نفسه، ويصل إلى النتيجة نفسها. وقد قال لي ضيف الأخرس، الذي كان وقتئذ مستشارا اقتصاديا للرئيس الراحل ياسر عرفات، إن مشروع هذا المطار الذي يمتد على 150 هكتارا ذو دلالة سيادية لفك الحصار المفروض على فلسطين.
ربما يجهل كوشنر هذه الحقائق، ويضع نصب عينيه أهدافا وحده يتخيل وقعها السحري
 الافتراضي على الفلسطينيين، بما في ذلك تحقيق ثورة غير مسبوقة في مجال الاتصال، على الرغم من أن الجيش الإسرائيلي هو من يتحكم في كل الموجات والترددات والذبذبات في الأراضي المحتلة. وحتى لو افترضنا أن هذا الشاب يؤمن إيمانا راسخا بأنه ينوي إحداث انقلاب جذري في المنطقة، فهل نسي أن المستوطنات اليهودية سرقت مساحات واسعة من أراضي الضفة الغربية، ومنها في محيط القدس الشرقية التي تتعرض يوميا للتهويد وسياسة القضم؟
يضج الخطاب الذي صيغ به مخطط كوشنر بالغموض والالتباسات، ويتحرّك خارج الواقع والوقائع. وخارج معطيات التاريخ ومحدّداته وإكراهاته، وخارج الجغرافيا وما تطرحه من تحدياتٍ حقيقية. ولكن يظهر أن هذا المخطط الذي يصنف ضمن ما تسمى بصفقة القرن، وسوّقته مؤسسات إعلامية عديدة، وحتى بعض الدول، وهو من إملاء اليمين الإسرائيلي الذي يرفض أصلا مبدأ قيام دولة فلسطينية إلى جانب دولة إسرائيل. وهذا ما جعل الفلسطينيين، سلطة وفصائل ومجتمعا ونخبا، يطعنون في أوهام الصفقة هذه منذ البداية، خصوصا أن مسالك حل النزاع واضحة تبدأ من القاعدة السياسية، وقد أنتجت بشأنها أدبيات ووثائق وقرارات وتوصيات أممية ذات قوة مرجعية ثابتة.
يدفع صهر الرئيس ترامب، من خلال وثيقته، التناقض إلى درجاته القصوى، خصوصا عندما يخلط بين الواقعي والافتراضي، وينشر مزاعم وأكاذيب تُظهر أن للولايات المتحدة فضلا عظيما على المنطقة، وأنها صاحبة قلب رحيم من خلال تمكين الفلسطينيين من التعليم وشروط العيش الكريم عبر مشاريع ممولة من وكالة التنمية الأميركية، علما أن الإدارة الإميركية قرّرت، بشكل لا إنساني غير مسبوق في علاقتها مع منطقة الشرق الأوسط، وقف مساهماتها في موازنة وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، وطلبت من وكالتها في التنمية تجميد مشاريعها في الأراضي الفلسطينية.
على الرغم من أناقته ورقته، والبراءة التي قد يوحي بها مظهره، فإن جاريد كوشنر يختزل كل 
شيء في منطق الصفقات التجارية، كما حماه، ترامب، الذي تحرّكه الأرباح التي يمكن أن توفرها الصفقات، وهذه تحدد رؤيته للعالم، فإنه يسعى، بكل الوسائل والذرائع، إلى إقناع من يشكّون في قدراته السياسية أن يتبنوا رؤية جديدة تجاه نزاع قديم، فيما مخططه خليط من الأفكار المفكّكة والمتنافرة، عدا عن أنها تغفل عن أن المفهوم الإسرائيلي للسلام وللتعايش هو العقبة الأساسية التي يصصدم بها أي مسعى نحو أي سلام أو ازدهار، ويحول دون ترجمة أي مشاريع حقيقية في هذا الخصوص على الأرض. وذلك عدا عن أن كوشنر يرفض، بشكل جذري، حقا الفلسطينيين في تقرير مصيرهم، كما يرفض مبدأ الأرض مقابل السلام الذي شكل أساس كل مبادرات التسوية السابقة.