14 ابريل 2017
أوهامنا وأوهام الخبرة
نشرت منابر إعلامية، في الآونة الأخيرة، تقريراً مثيراً عن أخطاء الخبراء، وهم تلك الفئة من الأطر اللامعة في مراكز الأبحاث الاستراتيجية، وفي مؤسسات استطلاع الرأي، وفي برامج التحاليل الإخبارية والبرامج الحوارية في تلفزيونات العالم، وأولاً وقبل كل شيء، خلف المقررين، وحولهم، في مكاتب الاستشارات التي تلتقي عندها كل الخيوط المتشابكة، والتي أصبحت تنوب عن الحكومات والبرلمانات، في تحديد السياسات العمومية وبرامج التنمية.
في كل مرة، خرجت أرقام، أو تشخيصات، أو اقتراحات، من قبعات هؤلاء السحرة، تلقفها العالم باقتناع أعمى، وانبهار تام، كما يتلقى إعجازاً دينياً جديداً، وبالفعل، فإن سطوة هذه الخبرة، بغيبياتها وتنبؤاتها وحقائقها المطلقة، تستعير، في شكلها وخطابها ومضمونها، لبوس الدين وآليات اشتغاله، وتوهم باعتمادها على العلم والمعرفة، وهما لا يخضعان لأهواء السياسة ولا لتقلباتها، بل وتوهم بأن"العلم" الذي تصدر عنه هو منظومة أخلاقية في حد ذاتها، تحمي المجتمع من الفساد ومن إهدار المال العام، ومن تبديد الوقت والثروات.
لكن التقرير المذكور يتجرأ على هذه "الكنيسة الحديثة"، فينشر بالأرقام أخطاءها، أو أكاذيبها المدهشة، فسواء تعلق الأمر بالمجال الاقتصادي والمالي، أو بميولات التجارة العالمية، أو بالمجال الصحي، أو بتحولات السياسة والمجتمع، فإن أزيد من تسعين بالمائة من نبوءات الخبراء لا توافق الحقيقة، ولا توافق الأخلاق، فكثيرون منهم عبأوا نصف الخليقة ومليارات الدولارات لمواجهة إنفلونزا لم تجئ، ودقوا طبول حرب لم تقع، وباعوا أماناً وهمياً لشعوب وجدت نفسها تحت رحى الحرب، وزفوا معدلات نمو، سرعان ما انطفأت، وبنوا أهرامات اقتصادية بأحجار افتراضية، والأدهى أن جل هؤلاء الخبراء كانوا يرفلون في نعيم الحقائق المطلقة، عندما انفجرت الأزمة الاقتصادية العالمية الأخيرة، من دون أن تصل إليهم ذبذباتها، فلم يكن بينهم من تصور انهيار بنوك، أو تصدع قارات، أو غرق دول في أكثر من تيتانيك، كان يبحر آمناً بشهادة الخبراء.
وعندما وقعت الواقعة، كان هؤلاء أول من تطوعوا لملء تلفزيونات العالم بتحليلاتهم لما جرى، وبتصوراتهم الواثقة، للخروج من الأزمة، بل منهم من "تبرعت" به مؤسسات بنكية تعج "بالخبرة"، لتسيير بلدان عريقة، مثل إيطاليا، حيث لا يمكن للسياسيين أن يقوموا بعمليات البتر المؤلمة التي لا غنى عنها، حسب الخبراء، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
في كل المحافل، يعرف هؤلاء الخبراء كل ما يجب فعله، في السياسة والاقتصاد والحرب والسلم، بسياسة اليمين أو بسياسة اليسار أو بهما معاً. وفي كل المحافل، يعرف الجميع أنهم ليسوا مجرد خبراء، بل حكام "ملثمون"، وبعضهم يقفز برشاقة بين حبال الخبرة والنصب والاحتيال، من دون أن يرف له جفن.
لذلك، في كل ديموقراطيات العالم اليوم، هناك شعور بالخوف من تقويض "دولة المؤسسات" "بدولة الخبراء"، وهناك إحساس قوي بمخاطر هذا الأخطبوط الذي يجمع بين تقنيات صناعة النخب، عبر المدارس والجامعات الكبرى، وشبكات النفوذ في المقاولات الضخمة، وفي البنوك العملاقة، بما يقود حتماً إلى مصادرة الديموقراطية التي تصبح آلة لتفريخ مؤسسات محدودة التأثير، بينما تتعملق في الظل مراكز قرار "غيبية"، لا تطالها المراقبة، أو المحاسبة.
بيد أن هذه الديموقراطيات العريقة تمتلك مع ذلك آليات سياسية واجتماعية لمقاومة هذه المصادرة. أما في بلداننا، الأمر أقل تعقيداً من هذه الحروب الدقيقة، فعندما ننجح في أن يكون لنا خبراء، وليس أنصاف خبراء بألسنة طويلة، فإن قوة سحرية سرعان ما تقنعهم بهجر الساحة الديموقراطية، والارتباط جسداً وروحاً "بالدولة العميقة" التي تضعهم دائماً في الأماكن المناسبة بالامتيازات المناسبة، وعندما تحتاجهم ذات يوم لدور سياسي، فإنها تضعهم في الوقت المناسب في الحزب المناسب.
لذلك، نتوفر على هذه الخلطة المبهرة، نصوت بالطبول والزغاريد من أجل "الفرجة الديموقراطية"، وبعدها نترك الخبراء "يتفرجون" علينا.
في كل مرة، خرجت أرقام، أو تشخيصات، أو اقتراحات، من قبعات هؤلاء السحرة، تلقفها العالم باقتناع أعمى، وانبهار تام، كما يتلقى إعجازاً دينياً جديداً، وبالفعل، فإن سطوة هذه الخبرة، بغيبياتها وتنبؤاتها وحقائقها المطلقة، تستعير، في شكلها وخطابها ومضمونها، لبوس الدين وآليات اشتغاله، وتوهم باعتمادها على العلم والمعرفة، وهما لا يخضعان لأهواء السياسة ولا لتقلباتها، بل وتوهم بأن"العلم" الذي تصدر عنه هو منظومة أخلاقية في حد ذاتها، تحمي المجتمع من الفساد ومن إهدار المال العام، ومن تبديد الوقت والثروات.
لكن التقرير المذكور يتجرأ على هذه "الكنيسة الحديثة"، فينشر بالأرقام أخطاءها، أو أكاذيبها المدهشة، فسواء تعلق الأمر بالمجال الاقتصادي والمالي، أو بميولات التجارة العالمية، أو بالمجال الصحي، أو بتحولات السياسة والمجتمع، فإن أزيد من تسعين بالمائة من نبوءات الخبراء لا توافق الحقيقة، ولا توافق الأخلاق، فكثيرون منهم عبأوا نصف الخليقة ومليارات الدولارات لمواجهة إنفلونزا لم تجئ، ودقوا طبول حرب لم تقع، وباعوا أماناً وهمياً لشعوب وجدت نفسها تحت رحى الحرب، وزفوا معدلات نمو، سرعان ما انطفأت، وبنوا أهرامات اقتصادية بأحجار افتراضية، والأدهى أن جل هؤلاء الخبراء كانوا يرفلون في نعيم الحقائق المطلقة، عندما انفجرت الأزمة الاقتصادية العالمية الأخيرة، من دون أن تصل إليهم ذبذباتها، فلم يكن بينهم من تصور انهيار بنوك، أو تصدع قارات، أو غرق دول في أكثر من تيتانيك، كان يبحر آمناً بشهادة الخبراء.
وعندما وقعت الواقعة، كان هؤلاء أول من تطوعوا لملء تلفزيونات العالم بتحليلاتهم لما جرى، وبتصوراتهم الواثقة، للخروج من الأزمة، بل منهم من "تبرعت" به مؤسسات بنكية تعج "بالخبرة"، لتسيير بلدان عريقة، مثل إيطاليا، حيث لا يمكن للسياسيين أن يقوموا بعمليات البتر المؤلمة التي لا غنى عنها، حسب الخبراء، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
في كل المحافل، يعرف هؤلاء الخبراء كل ما يجب فعله، في السياسة والاقتصاد والحرب والسلم، بسياسة اليمين أو بسياسة اليسار أو بهما معاً. وفي كل المحافل، يعرف الجميع أنهم ليسوا مجرد خبراء، بل حكام "ملثمون"، وبعضهم يقفز برشاقة بين حبال الخبرة والنصب والاحتيال، من دون أن يرف له جفن.
لذلك، في كل ديموقراطيات العالم اليوم، هناك شعور بالخوف من تقويض "دولة المؤسسات" "بدولة الخبراء"، وهناك إحساس قوي بمخاطر هذا الأخطبوط الذي يجمع بين تقنيات صناعة النخب، عبر المدارس والجامعات الكبرى، وشبكات النفوذ في المقاولات الضخمة، وفي البنوك العملاقة، بما يقود حتماً إلى مصادرة الديموقراطية التي تصبح آلة لتفريخ مؤسسات محدودة التأثير، بينما تتعملق في الظل مراكز قرار "غيبية"، لا تطالها المراقبة، أو المحاسبة.
بيد أن هذه الديموقراطيات العريقة تمتلك مع ذلك آليات سياسية واجتماعية لمقاومة هذه المصادرة. أما في بلداننا، الأمر أقل تعقيداً من هذه الحروب الدقيقة، فعندما ننجح في أن يكون لنا خبراء، وليس أنصاف خبراء بألسنة طويلة، فإن قوة سحرية سرعان ما تقنعهم بهجر الساحة الديموقراطية، والارتباط جسداً وروحاً "بالدولة العميقة" التي تضعهم دائماً في الأماكن المناسبة بالامتيازات المناسبة، وعندما تحتاجهم ذات يوم لدور سياسي، فإنها تضعهم في الوقت المناسب في الحزب المناسب.
لذلك، نتوفر على هذه الخلطة المبهرة، نصوت بالطبول والزغاريد من أجل "الفرجة الديموقراطية"، وبعدها نترك الخبراء "يتفرجون" علينا.