أولاد شحيبر

"أولاد شحيبر" مصطلح استعمل، هنا في تونس، لدلالته كما جاء على لسان عادل إمام في مسرحية "الواد سيّد الشغّال"، أولاد شحيبر هم الذين قامت ضدّهم الثورة، وكان يجب ركلهم وكنسهم من طبقات الحكم، ومن مفاصل الدولة، حتى لا يعودوا ويأكلوها من جديد، خصوصاً أولئك الذين ذبحوا الشعب، وحاربوه في حرّيته ولقمة عيشه، لكنهم عادوا.
وما حدث بالفعل، في الحقيقة، هو أن أولاد شحيبر لم يبرحوا أيّ موقع كانوا فيه، حتى يعودوا إليه، لقد صمتوا كالفئران المذعورة أمام زئير أسودٍ تبدو كاسرة، فتبيّن لهم، مع الوقت، أن هذه الأسود لم تكن سوى فرقعات في الفراغ، فظهروا من جديد لتوجيه كلّ المسار الانتقالي و"سيسنته" (نسبة للسيسي).
وأثبتت انتخابات 23 أكتوبر، بما لا يدعو للشكّ، أن كل التونسيين شاركوا في الثورة المضادّة، بطريقة أو بأخرى، فقد كانوا مثل رماة غزوة أحد، عندما غادروا مواقعهم القتاليّة طمعاً في اقتسام الغنيمة، فحوّلوا نتائج المعركة، من الربح إلى الخسارة، ومن غلبة القلّة المرابطة إلى خسارة القلّة اللاهثة وراء أهوائها ورغباتها.
وقد تميّزت حكومات ما بعد 23 أكتوبر بسوءتين، الأولى عدم استيعابها الواقع، حيث اعتقدت أن انتصارها طريق معبّد بالورود، وأن الحناجر ستهتف لها في هذا الحضن الكبير من الديمقراطيّة الوهميّة الذي صنعته الثورة. فتنحّت جانباً عن طريق الثورة، وقطعت العلاقة مع القوى الشعبية الثورية التي تسعى، كل يوم، إلى إحداث تغيير حقيقي، وأبقت علاقاتها مع مكاتبها الجهويّة، بعد أن دجّنتها، وأقصت منها كلّ الكفاءات الفكرية، القادرة على تصويب الحراك الثوري، أو حتى القادرة فعلياً على مساندتها في مواصلة الحكم، وفي استيعاب مشكلات الحكم.
والسيئة الثانية، أن هذه الحكومات سعت إلى إيجاد معادلة التعايش مع العدو، الذي قامت ضدّه الثورة، وهو ما يتنافى مع مفهوم الثورة الذي يعتبر تغييراً شاملاً لا حركة إصلاحية.
وفي حركة سوء تقدير قاتلة من أجل التعايش، سعت هذه الحكومات إلى تحييد العدو من الصراع القائم، فمكّنت أغلب رموزه من احتلال المواقع المتقدّمة في المؤسسات، وحتى من كان بعيداً منهم فقد استقدمته لاسترضائه، ومكّنته من إدارة ما، أو مسؤوليّة ما، لعله يصبح صديقاً، وما حصل كان العكس تماماً، فقد تمرّدت كل المؤسسات، وشلّت حركة الإنتاج وعجلة التنمية لتتهاوى الحكومة الشرعية، وتحلّ محلها حكومة المهدي جمعة.
وقد جاءت حكومة جمعة، بعد أن استكملت الحكومات الشرعيّة الشروط الموضوعية والقانونية لسيطرة العدو على المؤسسات، ووفّرت لهم عهد أمان، لم يكونوا يحلمون به، وأسقطت لأجلهم قانون العزل السياسي الذي سيوفر لهم الحكم من جديد.
ولم يقل أحد إن حكومة جمعة جاءت لمناصرة الشرعيّة، أو لتقوية الثوّار ومساندتهم، ولكن الاتفاق على مجيئها كان ينصّ على البحث والنبش، فيما قامت به الحكومة المعزولة لمحاسبتها، وملاحقة أبنائها، ومطاردة من تبقوا من الثوّار، وهو ما يفعله جمعة، والماكينة التي جاءت به، كل يوم، بكلّ ثقة واعتداد بالنفس، وخارج القانون، من دون أن يحرّك أحد ساكنا.
خلاصة القول، الجميع في تونس شارك في الثورة المضادة، بقصد أو بغيره، وكان التفكير في اقتسام الغنيمة أكبر من التفكير في صنع وطنٍ، وديمقراطية حقيقية، فمهّدوا بذلك لأولاد شحيبر، لكي يعلو صوتهم مرّة آخرى. وستكون انتخابات 26 أكتوبر فيصلاً حقيقياً بين العودة إلى المربع الأول وصناعة تغيير حقيقي، لو عادت القوى الثورية الشعبية الحقيقية لصناعة مستقبل تونس، وإلا سيكون الحكم لأولاد شحيبر مرّة أخرى.

