أوركيديا.. ما لم تقله العرّافة

أوركيديا.. ما لم تقله العرّافة

09 يونيو 2017
(أوركيديا)
+ الخط -
خيّب مسلسل "أوركيديا" - حتى الآن - تطلّعات الجمهور العربي الذي هيأ نفسه لملحمة تعيد الدراما السورية إلى أيّام ألقها، والعمل الذي كتبه عدنان العودة وأخرجه حاتم علي، أثار حوله كثيرًا من اللغط قبل عرضه، بدءًا بالصحافة الصفراء التي روّجت له كـ نسخة عربية من المسلسل الأميركي الشهير Game of Thrones، ثم نشوب الخلافات بين القائمين عليه بعد تعديل النصّ الذي كتبه العودة، وإدراج خط أحداث جديد كتبه إياد أبو الشامات، وصولًا لتبرؤ العودة من المسلسل بعد عرض حلقته الثامنة.

يتّسم المسلسل حتى الآن بركود أحداثه وضيق أماكنه؛ فالعمل المصوّر في رومانيا وتونس يفشل في خداعنا بوجود ثلاث ممالك وسط صراع على السلطة، وكأن الأحداث تجري في القصر ذاته، في غيابٍ شبه تام لهوية بصرية تخص كل مملكة أو مشاهد خارجية بمجاميع بشرية تعطي العين فرصة استكشاف المكان كما يحضر الغرافيك السيئ في غير مناسبة، ليكون غياب مصمّم الديكور ناصر جليلي طاغيًا على حضور ممثلي الصفّ الأول في سورية.

غابت الفانتازيا العربية عقدًا من الزمن، بعد أن كانت تتسيّد الشاشات أيّام نصوص هاني السعدي المقفّاة، ولا يبدو أن العمل الجديد حظي بتقدير شعبي مماثل، وإن كان ينبئ بالخروج عن حالة "الإسقاطات" المعتمدة تاريخيًا في الفانتازيا العربية في خطوة تستحق الإشادة، وهذه بادرة جيّدة للوصول بهذا النوع الفني ليشكّل ذاته وشروطه الفنية بعد تقييّده بعاملي الحدوتة والإسقاطات.


ماذا ينقصنا؟
ترتكز حبكة أوركيديا على نبوءة عرّافة "مي سكاف"، تحذّر الأمير عتبة "باسل خياط" من ابن أخيه الذي سيقتله بعد أن يستعيد ملكه، ينقصنا نحن كمشاهدين الإلمام بنظرة هذه الشخوص إلى مفهوم النبوءات، يفوّت المسلسل فرصته بوضع شروطه الخاصّة كمجتمعات وأفراد، ويترك الفراغ ليملأ مرويات هذه الأماكن فلا يظهر ارتباطهم بالطبيعة، أو مرجعياتهم التاريخية أبعد من الحرب التي سلبت الأمير عتبة ملكه، كذلك يغفل ذكر الدين وتغيب الميثولوجيا والأساطير عن هذه الممالك التي تتحدّث كلها بلسان واحد، وتتباين فقط بحكّامها، ما يحيل الصراع قشريًا دون دلالة على اختلاف في التقاليد والأيديولوجيا أو تضارب المصالح الاقتصادية حتى.

إن عدم التحديد الزمكاني شرط ملازم للفانتازيا التاريخية، يتيح هذا الشرط القدرة على حصول أحداث كبيرة كتولّي ملك أو الاقتراب من نهاية العالم، لكن في الوقت نفسه، يترك مساحة بيضاء في تكوين المرجعيات كالأسماء ومدى إدراك الكون وطرق تفسيره، ويبدو اسم خاتون "سلافة معمار" خارجًا عن طرح "أوركيديا"، لا سيّما إن أضفنا وجود "المدرسة الخاتونية"؛ في الحلقة الأولى من العمل تظهر لافتة المدرسة مع تشكيل الحروف وتنقيطها فينهار الشرط الزمكاني المفترض لأن هذا يدلّل على أن الأحداث تحصل بعد أن أدخل أبو الأسود الدؤلي الحركات والتنقيط على اللغة العربية درءًا للحن في قراءة القرآن، وأكمل عمله الفراهيدي في العصر العباسي، فيحق لنا التساؤل هل سنجد قرآنًا في المكتبة الخاتونية؟

للأسف لا ينتمي العمل للفانتازيا التاريخية البديلة؛ وهي نوع يفترض حصول حدث مغاير في التاريخ ويستعرض عبر قصّته عوامل هذا العالم المتخيّل، مثل أن النازية انتصرت في الحرب العالمية الثانية أو أن الانتداب الفرنسي استمر في سورية. فلم يكن وجود التنقيط سوى هفوة إخراجية يكرّرها علي بعد سبعة عشر عامًا على الخطأ المشابه عندما كتب "كُليب" في مسلسل الزير سالم بدمه كلمة (لا تصالح) منقوطة التاء.


استلهام الفلكلور
تعتمد الفانتازيا التاريخية العالمية اللهجة البريطانية لشخوصها في تكامل مقنع بين القصور ولغة الملوك، وتنهل من الأساطير والموروثات الشعبية قصص أبطالها ونسيج مجتمعاتها، وهذا التعدد نفتقده في ثقافتنا العربية ولا يبدو من المقبول نسج حكاياتٍ يتخللها آلهة وما ورائيات لاعتبارات إنتاجية تفرض حدودها الرقابية، واعتبارات الجمهور المتلقي الذي لا يزال يعامل هذا النوع الفني بمنطقه دون الولوج لمعاملات هذا العالم وشروطه.

المأخذ الآخر على "أوركيديا" ركاكة الحوار والابتعاد عن الألفاظ الجزلة بالاقتراب من لغة بسيطة واستعمال أمثال شعبية في متن الحديث، لكن هذا خطأ المتلقي الذي يفترض عملًا تاريخيًا يحاكي قصص الجاهلية أو أيّام الأندلس بحسب مسيرة المخرج، فاللغة وليدة الحياة وتميل للدعة والتعقيد بحسب ناطقيها، لكن هؤلاء هم الضبابيون الذين لا نعرف ذائقتهم أو مراجعهم الأدبية، فوسط مشاهد الرقص تغيب الآلات الموسيقية ويحضر الشعر العربي بموشّحاته دون مرجعية أيضًا.

إن تشكيل عالم كامل يخلق مفرداته وأشخاصه، يوضّح المتسق مع عالمه والآخر الذي يكوّن الشأن الغرائبي أمر ليس بالهيّن، وبنظرة للأعمال الفانتازية الأدبية التي شكلت حالات متميّزة وأسست لتكون نواة هذا الفن، فقد امتد تحضيرها سنين طويلة ولطالما كان الاقتباس السينمائي والتلفزيوني يعوّل بنجاحه على نجاح الروايات المنجزة مثل سلسلة ملك الخواتم لـ جي أر تولكين، وهناك يكمن التحدّي في القدرة على نقل تفاصيل هذه العوالم دون التخبط بالسرد المطوّل، ويبدو أن عوز المكتبة العربية لهذا النوع الأدبي سيحول دون وجود فانتازيا عربية ترقى لنقلنا من عالمنا إلى هذه الافتراضيات، ويبقينا محصورين في خانة استلهام الفلكلور.

من المستبعد أن تهيَأ الظروف لعمل فانتازي قادم كما كانت لـ "أوركيديا"، من ناحية الإنتاج أو تكاثف نجوم العمل الدرامي في سورية الذين يجمعهم العمل؛ سلوم حداد وجمال سليمان وعابد فهد وباسل خياط ويارا صبري وسلافة معمار وجفرا يونس وغيرهم، ومن النافل القول إن حاتم علي هو من أجهز على العمل الذي كان يعد بالكثير على الورق، فأنجز التصوير خلال ثلاثة أشهر موقعًا العمل في مطبّات إخراجية تُندي الجبين، وتغييرات على النص جعلت الكاتب لا يميّز عمله وينكره في النهاية، حرص فيها علي أن يحوّل القصّة لتصبح زخرفًا متحفيًا بشخصياتٍ أحادية الجانب، مضى زمانها وانقضى عوضًا عن كونها تحمل مفاعيل إنسانية تعبر الزمان والمكان.

المساهمون