Skip to main content
أن تأتي متأخراً

كشكول

بلال فضل
حين سألته عن تجربته مع الزواج، لم أكن أعرف ما انتهى إليه حاله، ولو كنت أعرف لما سألت..
كان أكبر مني بكثير، ولم أكن ألتقيه كثيراً منذ أن بدأت معرفتي به، لكن المودة و"الاستجداع" أزالا حاجز فرق السن وقلة اللقاءات، فصرنا حين نلتقي نبدو لمن لا يعرفنا كأننا صديقان منذ أمد بعيد.

حين عرّفني عليه أستاذي الذي كان من أبناء جيله، كان حريصاً على "بَروَزة" حكاية أنه أستاذ في جامعة فرنسية مرموقة، ليقول لي أستاذي لاحقاً إن صاحبنا كان لامعاً ومتفوقاً على كثير من أقرانه في بواكير الشباب، وأن سفره الطويل إلى فرنسا حين جاءته فرصة الهجرة هو الذي أوقف استمرار انشغاله بالشأن العام كتابة ونشاطاً، ولذلك لم يعرفه أبناء جيلي، ولذلك أيضاً أدهشتني متابعته الدقيقة لكل ما يدور في مصر من أزمات وقضايا رأي عام، مع أنه لم يكن يقيم فيها إلا شهراً واحداً في الصيف، وأسبوعين في الشتاء، ليصير لي مع الوقت نصيب وافر من رحلتَي شتائه وصيفه.

حين فاجأنا بأنه قرر أن يعود من إقامته الطويلة في باريس التي عاش فيها مع زوجته وحيدين دون أبناء لأكثر من عقدين من الزمان، كنت على وشك الزواج بعد عزوبية طويلة، وكنت قد قررت أن أقوم بجمع تجارب كل من أعرفه عن الزواج، لعلي أعتبر وأستفيد، أو لعل توتري مما أنا مقبل عليه يخفّ، ولأنه لم يكن يتحمس للحديث عن حياته الشخصية مطلقاً، فقد استبشرت حين اهتم بسؤالي وتجاوب معه متحمساً، ومشجعاً لي بأن أمضي في مشروعي، وألا ألقي بالاً للنصائح المثبطة والمخوفة من النكد الزوجي الحتمي، لأن النكد على حد تعبيره، "مثل السعادة لا يهبط من السماء فجأة، بل يزرع الإنسان بذوره بيديه ثم يندهش حين يفاجأ به وقد ملأ حياته"، ولأن رأيه لم يكن شائعاً بين من أعرف من قدامى المتزوجين، الذين كنت أشعر أن تشجيع بعضهم لأمثالي على قرار الزواج، أشبه برغبة في الاستدراج إلى فخ مُحكَم سبق أن هلكوا فيه، لذلك قررت أن أركز في حديثي معه على نصائح عملية، تساعدني على أن يكون زواجي طويلاً وسعيداً كزواجه، في عالم يندر أن يكون فيه الزواج طويلاً وسعيداً.

وجدت نصيحته الأولى مبهرة، ولا زلت أتذكرها حتى الآن بنص كلماتها: "لا تنم بعيداً عن زوجتك مهما كان بينكما من مشاكل أو خلافات، لا تستهن أبداً بتأثير اللمسات العفوية التي قد تحدث حين يتقلب أحدكما وهو نائم إلى جوار الآخر، أو حين يصحو فيجده أمامه، طبعاً سيكون هناك تأثير رائع إذا كان هناك حب من الأصل، فحين لا يكون هناك حب، ستزيد كل لمسة عفوية أو متعمدة من نار الكراهية التي تقود حتماً إلى خراب البيوت".


وبحكم العشم، كان طبيعياً أن يقودنا الحديث عن اللمسات العفوية، إلى الحديث عن الجنس العفوي منه والمتعمد والذي يستهبل ويدعي العفوية، وهو حديث لم يحبه ولم يسهب فيه، لأسباب لم أتبينها، إلا حين أدلى بنصيحته الثانية والأخيرة: "إذا ارتكبت زوجتك تصرفاً تراه خاطئاً، لا تؤجل إعلان غضبك عليه أبداً، حتى ولو قال لك عقلك إن في كتم الغضب حكمة، وما أكثر ما يضل العقل أصحابه، أعلن غضبك ولا تتردد، وإذا حدث وأن تجاوزت حدك وأنت غاضب فاعتذر بقوة حين يسكن عنك الغضب، وسيكون ذلك أرحم بكثير من أن تخفي غضبك وتتظاهر بالرضا عن خطأ زوجتك، لأنك بذلك تجعل فرصة إصلاح الخطأ أصعب في المستقبل".

بدت لي النصيحة مثيرة وغامضة، ولذلك استدعت مني أسئلة تفصيلية متلاحقة، لم يقدم للإجابة عليها سوى صمت قصير، فاجأني بعده بأن زيجته الطويلة السعيدة انتهت فجأة بشكل أليم وبايخ، وأن قراره بالعودة النهائية إلى الوطن كان بسبب تلك النهاية الأليمة البايخة، ولأنه كان يحتاج إلى الفضفضة أشد من حاجتي إلى النصيحة، فقد أدخلني لأول مرة في زواريق حياته الخاصة، وحكى لي كيف انتهت زيجته على غير ما كان يتمناه وما كنا نتوقعه.

بدأت النهاية حين مر صاحبنا مع زوجته بفقدان تدريجي للشغف الجنسي ثم العاطفي، وهو ما ظنه أمراً مؤقتاً بحكم طولة العِشرة، أو بحكم تقدم سنه فقد كان أكبر منها بنحو عشرة أعوام، وبحكم انهماكه في مشاغله، لم يتوقف كثيراً عند الأمر، آملاً في هدنة قريبة طويلة من المشاغل، تتيح لهما وصل ما انقطع وإرواء ما ذبل، وحين كانت الظروف تتيح لهما سفريات قصيرة في بعض الأجازات، كان شغفهما ببعضهما يأخذ دفعات لا بأس بها، وهو ما جعله يشعر أن ما سبق من فتور كان أمراً طبيعياً، سيزول بالكامل حين تتحسن الظروف أكثر وتتيح لهما أن يتقاعدا في مكان ما من الأماكن التي كانا يفكران في عيش أيامهما الأخيرة فيها سوياً.

حين قالت له زوجته ذات يوم إنها لن ترتدي خاتم الزواج من هنا ورايح، لأنه أصبح يضايقها بعد أن اكتسبت بعض الوزن، لم يعط الأمر أهمية لأنه كان كثيراً ما ينسى ارتداء خاتمه، وكان يعجبه أنها لا تجعل من تلك الحبة قبة، كما تفعل أخريات من زوجات أصدقائه، لكنه بالطبع لم يتصور، أن ذلك التصرف الهايف سيجعلها تأتيه بعد أشهر مرتبكة ومتوردة الوجه في نفس الوقت، لتقول له -بعد ما أدرك فيما بعد أنه كان تردداً في الاعتراف وليس استجماعاً عفوياً للأفكار- إنها تعرفت بالصدفة منذ أسابيع على رجل يسكن في العمارة المقابلة، وأن المعرفة حدثت بعد أن أخافها كلبه الضخم الذي أفلت زمامه من بين يديه خلال تمشيتهما اليومية، وحين ثبت لها سريعاً أن كلبه ألطف وأتفه مما يوحي شكله، شعرت بخجل زاد حين بدا الرجل حريصاً على ملاطفتها وتهدئتها.

حين سألها الرجل بعد أن لاحظ لكنتها الثقيلة من أي دولة هي؟ أجابته أنها من مصر، فأظهر انبهاراً أكثر من المعتاد، وحدثها عن حلمه القديم بزيارة بلدها المثير لاهتمامه منذ كان طفلاً، وأنه حين قرر أن يحقق ذلك الحلم، بدأ يسمع أن ظروف البلد لم تعد على ما يرام، فتطوعت بحماس لتفنيد ما سمعه بكلام حرصت على أن يكون منضبطاً وبعيداً عن العاطفة، وهو ما ثبت نجاعته، حين رأته في المرة التالية، حيث قال لها إنه تأثر بما قالته، وأنه وجد مصداقاً له في شهادات كثيرين على الإنترنت، ولذلك طلب من وكيله السياحي أن يرتب له زيارة في الصيف القادم، ليتواصل حديثهما في المرات التالية التي التقيا فيها، عن الأماكن التي يجب عليه أن يزورها، والأماكن المغالى في الاحتفاء بها، بينما هي لا تستحق الزيارة، ليفاجئها ذات تمشية مشتركة لهما مع الكلب بأنه لا يفكر فقط في مصر، بل يفكر فيها كثيراً منذ رآها لأول مرة، وأنه معجب بها كثيراً شكلاً ومضموناً، لدرجة أنه حلم بها أكثر من مرة وهي ترتدي فستان الزفاف وتقف إلى جواره أمام قسيس يتلو عليهما عهود الزواج، طالباً منها أن تتيح له فرصة التعرف عليها أكثر، بأن يخرجا سوياً في موعد على عشاء أو سينما أو على كليهما.


حاول صديقي الكبير أن يكتم ضيقه الذي اجتاحه بعد ما سمعه، ليحافظ على صورة الرجل الواثق من نفسه اللطيف مع زوجته، خصوصاً بعد أن اعترفت له زوجته أنها فوجئت بأن ما قاله لها ذو الكلب أسعدها جداً، وأنها فوجئت أكثر بنفسها، حين لم تبادر لإخباره بأنها متزوجة "وتحب زوجها بقوة"، بل قالت له في الأول إنها مسلمة، وأنها لا يصح شرعاً أن تتزوج من غير مسلم، لتفاجأ أكثر به في اللقاء التالي، وهو يقول لها خبط لزق إنه فكر فيما قالته جيداً، وأنه مستعد لأن يعلن إسلامه فوراً، وأنه في الأصل ليس مسيحياً ملتزماً، بل وأنه مستعد للتخلي عن تربية الكلاب إذا كانت تضايقها، خاصة وقد قرأ على الإنترنت أن المسلمين ليس بينهم وبين الكلاب عَمار، وهنا قررت إيقاف تطور الأمور المتسارع بشكل مفزع، فقالت له إنها تشكره جداً على كلامه اللطيف، لكنها في الحقيقة متزوجة منذ سنين طويلة، لكنها -كما لاحظ صديقي- لم تقل له إنها "تحب زوجها بقوة"، وحين لمحت الزوجة المرتبكة نظرة جارها المصدومة إلى أصابع يديها، فهمت سبب نظرته، وقالت له مفسرة إنها خلعت خاتم الزواج مؤخراً بسبب التهاب في أصابع يديها، وتأسفت على تسببها في سوء الفهم ذلك، ثم شكرته على لطفه وذوقه، لينهال عليها بدوره بسيل من الاعتذارات الممزوجة بقلق بيِّن وارتباك شديد.

أخذ صاحبي تنهيدة طويلة ليرتاح من عناء حكيه لما أثقل صدره، وبعدها اعترف لي أنه أخطأ حين واصل كتم غضبه، وظل محافظاً على ابتسامة كان يظنها لطيفة، لكنه بمنتهى الأمانة يراها الآن لزجة، خاصة أنه كان يداري بها على ظنه أن زوجته كانت تبالغ في تفاصيل الحكاية، كعرض من أعراض بلوغ مشارف الخمسين، وأنه حين تذكر مناقشات سابقة بينهما عن حب التملك ومشاكل الرجل الشرقي الذي لن يكون أبداً مثله، قرر أن يحول الابتسامة اللطيفة -التي لم يكن يراها لزجة- إلى ضحكة عريضة -لم يكن يعتقد أنها أشد لزوجة- ثم قال بعدها لزوجته كلاماً لطيفاً عن حظه السعيد كرجل يتزوج امرأة متجددة الشباب والجمال، وعن ذوق جارهما الرفيع، لتجمعهما بعدها ليلة كان يظنها مرضية لهما ومجددة لما انقطع من شغفهما، ولم يكن ليخطر له على بال أنها وهي معه، لم تكن تفكر فيه أصلاً، وأنها بعد أقل من عام لن تكون معه، بل ستكون بالفعل زوجة جارهما على سنة الله ورسوله، بعد أن ترك من أجلها دينه وكلبه وباريس، وانتقلا سوياً إلى مدينة جبلية بعيدة، ليكون ذلك آخر عهد صاحبنا بفرنسا وبالزواج، وحين قال لي بعدها كلاماً كثيراً عن أهمية سد الثغرات الزوجية أولاً بأول وعدم التهاون في أتفه التفاصيل التي يمكن أن تقود إلى ما هو أخطر منها بكثير وعن عدم الاعتماد على طول العِشرة، أخذت أهز رأسي متظاهراً بتأييده، ولم أقل له طبعاً إن مشكلته كانت طبعاً أعمق، من غضبة كان ينبغي في ظنه أن تكون معلنة، ومن خاتم في يد زوجته يرى متوهماً أنه لم يكن ينبغي أن يغادرها.