أنْ تتزوَّج مرّتين

أنْ تتزوَّج مرّتين

19 اغسطس 2020

تبادل خاتمي الزواج في حفل زفاف في خيمة شرق خان يونس (2/5/2018/فرانس برس)

+ الخط -

في واحدةٍ من أكثر بقاع الأرض فقرًا، ومع كثافةٍ سكّانيةٍ عالية، وضيقٍ في الرقعة الأرضية، تجد ولعًا بالمظاهر، وتمسُّكًا غير مسبوقٍ بالعادات والتقاليد، وهناك عادات وتقاليد مستحدَثة، تتجدّد مع مرور الزمن، فالعادات التي يجري استحداثُها ما هي إلا فكرة لشخصٍ يبحث عن مصدر رزقٍ من ورائها، فيقترحها في جلسةٍ ما، ثم يأتي آخر؛ ليشجّعه ويستحسنها، ويذهب آخرون إلى تقليدها، حتى تصبح عادةً لا تمرّ المناسبات الاجتماعية بدونها، والنتيجة مزيد من الأعباء الاقتصادية على كلِّ من يزمع الاحتفال بمناسبة ما، سواء كانت تخصُّ الأفراح، أو الأحزان.

لا يختلف اثنان أن لدى الشعوب العربية هوساً بالمظاهر، وكلما أوغلت تلك الشعوب في الفقر والعَوَز تمسّكت بالمظاهر أكثر، وكأنها تريد أن تنفي عن نفسها تُهمة، وكأن المظاهر ستقنع المحيط بأنها في أفضل حال، على الرغم من أن الحقيقة لا تغطَّى بغربال، ولا يختلف اثنان أيضًا على أن الزواج هو مشروع الفقراء المستقبلي الأوحد.

أذكر أن سيّدة تعتاش على مخصَّصات وزارة الشؤون الاجتماعية قد كانت تدَّخر كلَّ قرش، وتحرم نفسها، وحين تسأل عن السبب، فهي تجيب بأنها تدّخر لتزويج ابنها الوحيد؛ لكي تفرح به وبعياله، ولم تفكّر بالطبع، أو تخطِّط، في أن تفتتح مشروعًا بهذا المال لابنها يدرّ عليه وعليها مالًا، لو يسيرًا، ويُحسِّن من وضعها البائس، فأسمى غاياتها هو إضافة مزيد من الأعباء عليها، بإنشاء أُسرةٍ جديدةٍ تزاحمها في بيت ضيّق، وضِيق الأفق، بالإضافة إلى نظرة الفقراء للزواج؛ أنه المشروع الذي لن يفشلوا فيه، ربما يكون هو السبب.

وهكذا أصبحت مظاهر المناسبات الاجتماعية مثقلة وثقيلة، والاهتمام بها شديدًا ووطيدًا، وأيُّ تراجُع عنها يعدّ شذوذًا عن الجماعة، والسرّ الذي اكتشفته، مع طول ملاحظة لحال الناس الموغلين في الغوص في القاع، أنهم يبتدعون، ويقلّدون، ثم يتمسّكون، ويحذّرون من التراخي. والنتيجة أن بعض الجُهَّال وصغيري العقول يقلّدونهم، ويحذون حذوهم، ويتعاملون مع "تقليعةٍ" شاذّة وكأنها من المسلَّمات.

اعتاد معظم الناس في غزة عادة أن تتزوج أرملة الشهيد من شقيق زوجها، بغضّ النظر عن أيّ ظروف، ويتم التجاوز عن فرق السن بينهما، فالمهم أن "يلمَّ لحم أخيه"، ولذلك فقد تزوّج أحدهم، وكان لا يتجاوز العشرين عامًا من عمره، من أرملة أخيه الشهيد، والتي ترك لها زوجُها أربعة أطفال، وتكبره سنًّا بالعُمر، بالطبع. وبعد أن أنجب منها حفنة أخرى من الأطفال، أفاق على نفسه وأصبح يرى رفاق المدرسة التي تركها قد تخرّجوا في الجامعات، وبدأوا يتزوّجون بمظاهر وطقوس لافتة، وهكذا بدأ يطالب أمَّه صاحبة مقترح زواجه من "أرملة المرحوم" بالزواج مرّة ثانية، فهو يريد أن يفرح ويعيش هذه الطقوس، مثل باقي الشباب في سنّه، يريد كلَّ هذه الطقوس المزعجة التي يراها مبهجة. وللعلم طقوس الزواج في فلسطين عامّة تستمرُّ عدّة أيام، وتكون مرهقة، ومكلفة ماديًّا، ولكن الناس يتمسّكون بها، بترتيب أيَّامها، والويل لمن يتقاعس، أو يحذف طقسًا لضيق حال، فهو سوف يُعيَّر بذلك، ويترك حسرةً في قلوب المدعوِّين والمنتفعين، حتى قيام الساعة.

لم يتوقّف الشابّ عن إلحاحه على أمه، حتى أقنعته بأن يقيم حفلًا، كأنه يتزوّج أول مرّة، ويدعو أصحابه من الشباب والرجال، وقد أقام أحد الأزواج، بعد أن أنجب سبعة أطفال في غزة، أخيرًا، بطقوس أوسع، حفل زفاف جديد، فقد قرّر أن يعيد طقوس زواجه الذي مرّت عليه أربعة عشر عامًا، مرّة أخرى، وبرفقة أطفاله السبعة. والسبب أنه قد تزوّج في سنّ السادسة عشرة وقتها، ولم يشعر بفرحة العمر، وقد رأى هو وذووه أن إعادة مراسم الزواج، مع أمِّ العيال، أفضل ألف مرّة من تفكيره بالزواج من زوجة جديدة، وخراب الدِّيار.

مؤسفٌ هذا التوجُّه من الغالبية العظمى من الشعوب المسحوقة التي لم يفلح مواطنوها في تكديس ثروةٍ صغيرة، وعمدوا إلى التبديد والتبذير، بدلًا من تشغيل المال وتنشيطه، وتحويله إلى رأسمالٍ متحرِّك ينشط الفكر والعمل، وينتشلهم من القاع.

avata
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.