أنوار الفلسفة وظلمات الجهل

أنوار الفلسفة وظلمات الجهل

28 نوفمبر 2015

استطاع ابن رشد في زمنه التوفيق بين الفلسفة والدين(Getty)

+ الخط -
يوم الخميس الثالث في شهر نوفمبر/تشرين الثاني الذي صادف هذا العام التاسع عشر من الشهر، يحتفل العالم باليوم العالمي للفلسفة. وهي كلمة من أكثر الكلمات استعمالاً، ونسمعها باستمرار، تُستعمل في تعابير لغوية عديدة، ومع ذلك، لن تستطيع أن تجد شخصين يتفقان على تعريفها وإعطاء دلالاتها. لكن الناظر إلى التاريخ، وخصوصاً التاريخ العربي الإسلامي، يكتشف أن كل الحضارات بُنيت على الفلسفة، بدونها لا يوجد إبداع ولا تحضُر، هي، حقيقةً، مصدر الإنارة لكل الناس، وليست حكراً على نخبة معينة.
الحضارة اليونانية أسست للفلسفة مع رجال عظام مثل أرسطو، الذي عاش في القرن الرابع قبل الميلاد، ومعلّم إسكندر المقدوني. بنى فلسفته على مفهوم أن الفكر هو الأداة والوسيلة للمعرفة، كذلك أفلاطون، مؤسس علم المنطق، الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد، والذي عرّف الفلسفة "بالسعي الدائم لتحصيل المعرفة الكلية الشاملة التي تستخدم العقل وسيلة لها، وتجعل الوصول إلى الحقيقة أسمى غاياتها".
أسست هذه الفلسفة، أيضاً، للحضارة الإسلامية، عندما نُقلت وطُورت في بلادنا مع ابن سينا والفارابي وعشرات غيرهم، وأهمهم ابن رشد، الذي عاش في القرن الثاني عشر، وعينه خليفة المُوحدين طبيباً ثم قاضياً في قرطبة، وأقبل على تفسير آثار أرسطو، اتهمه علماء الأندلس والمعارضون بالكفر والإلحاد، وأبعد إلى مراكش، وتُوفي فيها.
لم يستطع الغرب الخروج من ظُلمات القرون الوسطى، إلا عندما نُقلت له بدوره تلك الحضارة، عن طريق المسلمين في الأندلس، وبعد احتلال غرناطة، أخذ المُنتصرون في زمنه كل الكتب الموجودة في المكتبات الأندلسية، وهي بالآلاف، وتُرجمت كلها ووُزعت تدريجياً على أنحاء أوروبا. قراءتها وفهمها سمح بخروج فلاسفة وعظماء أوروبيين، أمثال ديكارت، مؤسس العقلانية، وكانط، وغيرهما.
بنيت الحضارة الصينية، أيضاً، على فكر كونفوشيوس الذي كان يُدعى نبي الصين، وعاش في القرن السادس قبل الميلاد، واستمر فكره قروناً طويلة، حتى وصول الشيوعية في القرن العشرين، فكر مُسالم أخلاقي، تُختصر فلسفته بـ "أحب لغيرك ما تحب لنفسك".
انتقلت الأمم من الحضارة المتنورة إلى الظُلمات، عندما ابتعدت عن الفلسفة، فبعد نفي ابن رشد من الأندلس إلى مراكش، لم تقُم لنا قائمة، وحكم اليونانيون بالموت على فيلسوفهم سقراط، وسجن كهنوت روما علماءهم، كغاليليو وكوبرنيك، واستنكروا عليهم كشوفاتهم، وحتى أن الأرض كروية، وتدور حول الشمس.
لماذا هذا الترابط الوثيق بين الحضارة والفلسفة؟ لفهم ذلك، علينا أن نُعطي تعريف الفلسفة المُتوافق عليه حداً أدنى، وهو "ذلك النهج الذي يضع الإنسان هدفه الوحيد، مُستعملاً العقل وسيلة والوجود مجالاً".
كل إنسان يعمل بمهنته بهذه المُعطيات، هو فيلسوف بعمله ومجاله، يُساعد على نشر النور، وكل من دعا إلى الغيبيات والابتعاد عن العقل والفكر، والاعتماد على النصوص الغيبية والدينية لتفسيرها فقط، هو مبعث للظلمات.

استطاع ابن رشد في زمنه، أي القرن الثاني عشر، التوفيق بين الفلسفة والدين، بإعطاء
الأولوية للعقل دائماً، ولم يكن ذلك مُعتبراً خروجاً عن الدين، بل إغناء له، وهو ما يُسمى الاجتهاد، أي توفيق الدين مع العلم والفلسفة، وليس العكس. لذلك، دفع ابن رشد حياته ثمناً لإصراره على هذا النهج العلمي، فتحت ضغط شيوخ زمانه على خليفة الموحدين، أبو يعقوب، نُفي ومات في مراكش، وهو الذي فسّر كتب أرسطو، ويُعتبر تفسيره، إلى الآن، المرجعية الفلسفية لفهم الفيلسوف اليوناني العظيم، ويكون بذلك قد سهل على الغرب فهم فلسفة اليونان، ووضعهم على طريق الخروج من القرون الوسطى، والوصول إلى زمن النهضة، بينما لم يتمكن، لسوء طالعنا، من فعل ذلك في ديار الإسلام.
نستنتج من ذلك أن تنحية العقل والفكر هو المصدر الأول لكل مآسينا، منذ ثمانية قرون، وإن لم نعد إلى هذا النهج، فسنبقى خارج التاريخ. ففي بداية القرن العشرين، حاول الشيخ محمد عبده بناء فكر متنور مشابه، لكنه لم يتمكن من الاستمرار، نتيجة الضغوط الاجتماعية المُحافظة، والتي لا تقبل التغيير.
يؤدي الاحتكام فقط إلى النصوص اللاهوتية، مهما كانت، كما نرى وفي واقع تجاربنا المرّة، إلى خروج وحوش من بين ظهرانينا، لأن الاعتماد على النص يعني، عملياً، الاعتماد على تفسيراته العديدة، حسب المدارس الدينية، وهو ما يعني أن أي نص ديني، مهما كان، يمكن أن يؤدي عند أُناسٍ، مثل الشيخ محمد عبده، إلى البناء والعلم، وعند ظلاميي خوارج العصر إلى قطع الرؤوس ودمار المجتمع.
ناتج ذلك كله يفيد بأن العودة إلى فكر محمد عبده ومن قبله ابن رشد، وإعادة الاعتبار للفلسفة، قد يساهم، أو ربما يكون كفيلاً بإعطاء الأمة، أمل الانتقال من الظلمات إلى النور، وما ذلك على الله بعسير.
في بلاد الغرب، تُدرس الفلسفة مادة مهمة في البرامج المدرسية، في فرنسا تُفتتح دورة امتحانات نهاية المرحلة الثانوية بامتحان الفلسفة الذي يتكلم عنه، وتتباهى بالإجابة على أسئلته، كل وسائل الإعلام، المكتوبة والمسموعة والمرئية. أما في بلادنا، فلا يوجد لمادة الفلسفة مكان، وهي مع الأبحاث العلمية، تُعتبر من الكماليات، بمعنى أن لا أولوية لها في ظروفنا الصعبة.

دلالات