أنظمة تصنيع الرأي العام

أنظمة تصنيع الرأي العام

12 يونيو 2020
+ الخط -
في تغريدةٍ موجزة، لا تخفي إحباطًا كثيفًا، كتب الأكاديمي المصري، حسن نافعة، قبل أيام: "لم يعد المناخ ملائمًا للمشاركة بحريةٍ في النقاش العام، لذا قرّرت تجميد هذا الحساب مؤقتًا. أما السبب فيعود إلى بلاغٍ تقدّم به أحد المحامين اليوم للنائب العام، وكرّر فيه نفس الاتهامات التي تسببت في اعتقالي ومنعي من التصرّف بأموالي، وأعتذر لكل من يتابعني". بهذه الكلمات، قرر أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، بطواعية مُكرهة، مغادرة المجال العام الافتراضي، بعد أن أبعدته السلطات المصرية عن المجال العام المادي ستة أشهر خلف قضبان السجن، إثر اتهامه في سبتمبر/ أيلول الماضي بحزمة تهم، من بينها "الإخلال بالأمن والسلم العام تنفيذاً لغرض إرهابي، ونشر أخبار وبيانات وشائعات كاذبة عمداً، من شأنها تكدير الأمن العام، وإلقاء الرعب بين الناس، وإلحاق الضرر بالمصلحة العامة"، و"استخدام حسابٍ خاص على شبكة المعلومات الدولية، بهدف ارتكاب الجريمة موضوع الاتهام السابق". 
تلخص تجربة حسن نافعة في التحييد من المجال العام المادي بالسَجْن، والإقصاء من المجال العام الافتراضي بالضغط النفسي، أوجه القمع التي تمارسها السلطات في مصر ودول عربية أخرى لأجل السيطرة على المجال العام الذي يصفه يورغن هابرماس في كِتابه "التحول البنيوي للمجال العام" بـ "المملكة من حياتنا الاجتماعية التي تسمح بتشكل الرأي العام.. والمساحة الوسطى بين المُجتمع والدولة". وليس ما جرى مع نافعة من تحييد وإقصاء استثنائياً، بل هو القاعدة في تعامل الأنظمة المستبدّة مع الرأي الآخر، بصرف النظر عن موقعه أو درجة حدّته. وقد تنبهت الأنظمة القمعية، بعد الموجة الأولى من الربيع العربي، إلى أهمية المجال العام الافتراضي ومنصاته في تكوين الرأي العام وتحشيده، وانتقلت سريعًا من لحظةٍ اعتبر فيها الرئيس المصري الراحل، حسني مبارك، شباب "فيسبوك" "بلعبوا وخليهم يتسلوا"، إلى حشد الأدوات والحيلات للسيطرة على مجال عام استفرد به شباب الثورات العربية في العام 2011 لتعبئة الجماهير، وتنظيم حركات الاحتجاج الاجتماعي والتغيير السياسي.
في السنوات التي أعقبت إجهاض الثورات في مصر ودول عربية أخرى، صارَ المجال العام الإلكتروني الميدان الأساسيّ والحيوي للثورة المضادّة، ومصدرًا رئيسًا للاستقطاب وبناء الخوف وإعادة حالةٍ من الشك أدّت، في النهاية، إلى تقويض التحولات الديمقراطية، وتمكين الأنظمة من إعادة السيطرة على المجال العام واستخدامهِ بوصفهِ وسيلة تعبئةٍ لها، لا عليها. وقد سعت الأنظمة، بداية، إلى تشريع نصوصٍ قانونيةٍ تمكّنها من تقييد حرية التعبير وتنظيم المسيرات والاحتجاجات والتجمعات العامة، بذريعة حماية سلطة الدولة ومكانتها والحفاظ على النظام العام والمصالح العامة والأمن القومي. كما لجأت الدولة إلى وضع اليد على مفاصل التحكّم بشركات الاتصالات وتزويد الخدمات الإلكترونية. وانشغلت الأنظمة التي نجت من الهبّة الأولى للربيع العربي باستعادة نفوذها داخل المجال العام بشكل منهجي، وإعادة احتلال مناطق سيطر عليها النشطاء لوقت قصير، عبر أساليب وتكتيكات أخرى، مثل إغراق المجال العام بفائضٍ من القنوات الفضائية ذات المحتوى التافه، تُمكّن النظام السياسي من إحداث رأي عام زائف، بعد تعديل الرأي العام الحقيقي أو تغييره أو تضليله. كما وظفت بعض الأنظمة الذباب الإلكتروني والحسابات الوهمية لحَرْفِ النقاش العام، وتخريب المجال العام الافتراضي، باختلاق رأي عام زائف، مع دفع الرأي العام الحقيقي إلى زوايا الصمت والعزلة، كما حدث مع حسن نافعة وآلاف غيره. كما سَعَت الدّوَل إلى تمييع المجال العام بتصنيع قادة جُدد للرأي العام يعرفون بـ "المؤثرين"، ليحلّوا في مواقع قادة الرأي التقليديين، وأوكلت لهم توجيه الرأي العام، خصوصا الشباب، وإشغاله بمواضيعَ هامشية تصرفه عن القضايا العامة. وهكذا تكامل تصنيع التمثيل مع إجراءات الخنق "القانوني" وتكتيكات الإغراق والتمييع لإيجاد بيئة سماها هابرماس "اللّارأي العام"، تسيطر فيها أكثرية زائفة، بينما يختفي، أو يُخفى، الرأي العام الحقيقي وراء الشمس.
AE03ED80-FBD8-4FF6-84BD-F58B9F6BBC73
نواف التميمي
أستاذ مساعد في برنامج الصحافة بمعهد الدوحة للدراسات العليا منذ العام 2017. حاصل على درجة الدكتوراه من جامعة غرب لندن في المملكة المتحدة. له ما يزيد عن 25 سنة من الخبرة المهنية والأكاديمية. يعمل حالياً على دراسات تتعلق بالإعلام وعلاقته بالمجال العام والمشاركة السياسية، وكذلك الأساليب والأدوات الجديدة في توجيه الرأي العام وهندسة الجمهور.