Skip to main content
أنا والمتسول و"سكايب"
إيمان ملال (المغرب)
قضيت ساعات من وقتي، وأنا أجمع الأرقام الإحصائية، كما يجمع أحد المتسوّلين المعروفين في المدينة الدراهم، لقاءَ أكاذيب تساعده على لعب دور الضحية، ولن أكذب، فقد حاول ذاتَ صيفٍ أن يقنعني بأنه ضحية، وصدّقته، أعطيته يومها عشرة دراهم، وذهبت مرتاحة الضمير، لأنني لعبت دور المنقذة؛ لكن فرحتي انقطعت بعد ظرف وجيز، فقد انتقلت إلى مكان آخر، ووجدته يطلق كذبة أخرى على عابرين آخرين، وحين انتهى منهم، عادَ إليّ بكذبة أخرى، ونسيَ (المسكين) أنه أخذ مني لتوّه عشرة دراهم، نظرت إلى الأرض أبحث عن صخرة قاسية، لكنّ المدينة أصبحت تعاني من ارتفاع منسوب النظافة أخيراً لسوء الحظ، لم أجد صخرة، فرفعت رأسي، أحاول استيعاب غبائي، فوجدت أنه فرّ بجلده، لحسن حظه. اكتشفت أنه كان يلعب دور الضحية، فيما كنت الضحية.
نسيت أمره، وعدت إلى قصّة الأرقام التي بدأت الكتابة عنها في يومٍ آخر، كانت أرقاماً إحصائية عن ميدان الصناعات الكيماوية في البلاد، وجدت تقارير كثيرة في إطار دراستي السوق، بهدف بيع منتوجي الجديد، لن أخبركم عنه، من أسرار المهنة عدم كشف الأفكار الجديدة للمنافسين، فأنتم في كل الأحوال منافسون لي في المهنة، وهي ليست الكتابة بالمناسبة، ولأنني لست كاتبة، سأخسر الكثير إن نشرت أفكاري كلّها. وجدت أن السّوق التي سأبيع فيها منتوجي رائدة بالفعل، رفعت من إنتاج البلاد وقدرتها على الاستيراد والتصدير أيضاً، لكنّ منتوجي غريب جدّاً، لم يسبق أن تم تسويقه في بلاد ابن بطوطة، ولا في بلاد أخرى، حسب ما أتصور، لأنه يخدم النّساء والرجال، ويوفّر علينا قذارة ملابس بعضهم في الأماكن العمومية.
سأحاول أن أجعل الثمن بخساً جداً، حتى يستطيع أمثال ذلك المتسوّل شراءه. وهو لم يكن متسوّلا، قلت لكم ذلك، لا؟ أنا كنت المتسولة. أتسوّل اعترافات البراءة من المجرمين الضحايا، كنت معه ضحية، ولم أكن منقذة، وفي جانب آخر، أنا الضحية والمجرمة، الجريمة الثانية تخصّ أمراً أكثر تعقيداً من قيمة الدرهم في أسواق البورصة اليوم، تتعلق، بالتحديد، بمدى قدرتي على أن أعبّر عن شغفي الكبير بمجرمي الوحيد، من دون أن أترك أثراً للجريمة المركّبة. هذا يتعلق بقصص الحمض النووي والحيوانات النووية التي تضيع بالملايين، من دون أن يحول ذلك بينَ شعوب العالم العربي والجيش الإسرائيلي المغتصب. هذه هي الجريمة، تاريخية جدّاً يعرفها الفلسطينيون في الأراضي المحتلة العام 1948 أكثر مني.
جمعت الأرقام الكثيرة، ووضعتها في خلاصاتٍ، جعلتها تبدو مهنيّة جدّاً، وكأنني امرأة تمارس الطغيان على الأرقام والمؤسسات، وكان ذلك حلالاً بالمناسبة. فالطغيان في كلّ مكان، لماذا لا أتعلمه أيضاً؟ أنهيت دراسة السّوق، وأصدرت بياناً دستورياً لبرنامج سكايب، متجاهلة أنني الضحية لا هو. على "سكايب"، فكّرت في أشياء كثيرة، وكنت أضع سمّاعات أذنين، حتى يخترق الجمال كياني كلّه، عبر ثقب الأذنين. في البداية، بدا الأمر غريبا، لكنني شعرت بأنني ضحية للمرة الرابعة بعد الألف. لكن، هذه المرة ضحية لشركات الاتصالات اللعينة، إنها تمارس على الأصوات التنكيل الكثير، وتجلد الجمال بالحبال الصوتية. أفكر في رفع دعوى ضدها، كم من زواج أفشلته، بسبب إخفائها جمال الأصوات الذكورية والأنثوية؟ متأكدة أيضا من أنني سأربح القضية، وحينها، سأتخلى عن سوق المواد الكيماوية، وأسوّق منتوجاً جديداً، ينقل الأصوات عبر الهواتف، كما هي تماماً، من دون أن يتلاعب بنوتاتها الموسيقية.
دو ري مي.. فا فا .. دو دو لا .. هكذا كان يبدو الأمر، لكنّه أثّر فيّ بعمق شديد، وكنت أحمل قلماً بين أصابعي، أتلاعب به، والسماعتان في أذني، ونسيت أنني أكتب به، في مذكرة وجدتها مخربشة كلوحات بيكاسو العظيمة في النهاية، وعرفت معنى أن تكون الأصوات مصدر إلهام عظيم للفنانين الكبار. أتوقع، أيضاً، أن بيكاسو كان يرسم، وحبيبته التي تغني الأوبرا على هامش صفحات التاريخ تغني له "شخبط شخابيط لخبط لخابيط"، فأثار صوتها غريزته البرمائية، وبدأ يرسم بالريشة والألوان، إلى أن غرق وسط اللوحات ونسيَ قضاء حاجته الفيزيولوجية.
هذه هي ثغرات التاريخ التي أحبّ البحث فيها، والكتابة عنها، وأنا أتلمّس، بأصابعي المرهفة، روحه الطاهرة المجرمة، أو المجرمة بطهارة. أما عن التّسويق، فقد أعيد النظر فيه، لم أعد أريد أن أجلس تحت المكيفات، بانتظار الرابعة والنصف مساء. أفضّل النوم حتى المساء، والبدء في الكتابة إلى أن يفرغ مداد الأقلام العشرة التي أضعها في خزانتي، ومن ثم أحمل مفاتيح السيارة، وأخرج للتجول بين دروب أخرى، أراقب الناس وهاتفي المحمول وحاسوبي مغلقان تماماً، كي لا أتلقى اتصالاً إجرامياً عبر سكايب، أو شركة الاتصالات، وأفقد السيطرة على المقود، وأصبح في عداد شهداء الكلمة والنوتات الموسيقية. مي مي دو فا دو ..