أنا لا أحبكَ

أنا لا أحبكَ

21 يونيو 2020

محمود درويش يحيي جمهور أمسيته في حيفا (15/7/2007/Getty)

+ الخط -
أنا لا أحبكَ، يا محمود درويش. قد يكون هذا اعترافاً صادماً في الذكرى الثالثة والعشرين لميلادك، غير أنني تحمستُ للكشف عنه، لأتمّمَ متوالية الكشوفات التي دشّنها سليم بركات، مدركاً، أيضاً، أنني لن أحسم من رصيد محبيك أزيد مما "يُنقصه المخيط إذا أدخل البحر"، وإنْ جاء اعترافي بدوافع مغايرة لصاحب "أقاليم الجنّ".
قبل أن أجهر بالسبب، دعني أوضح، أولاً، أنني تعمّدت أن أكتب "ميلادك" عوضاً عن "وفاتك"، لأنني من الموقنين أن للشعراء أزيد من ولادةٍ واحدة، تتواكب مع مخاض قصائدهم ذاتها، ففي كل قصيدة يكتبها الشاعر يولد من جديد، بما في ذلك قصيدته الأخيرة التي يعلن فيها موته. لا فرق بين الموت والميلاد في عمر شاعر عظيم، ما دامت تستولده كلماتٌ عابرة للأجيال. لهذا كنت أنتظر قدومك من القبر شابّاً في الثالثة والعشرين مفعماً بالتحدّي الأول، ومنتظراً أن تعيد كتابة "سجّل أنا عربي"، ليس على حاجز إسرائيليّ هذه المرّة، بل على حاجز عربيّ صار يخشى حتى من عبور الفلسطيني أرضه، ويغضب إن تجاوز عدد أطفاله واحداً، فكيف إن كانوا ثمانية كأطفال قصيدتك؟ كنّا نحتاج إلى تحدٍّ مضاعف، يا صديقي، بعد أن تعدّدت المعابر التي لم يعد يعبر منها غير "تجار السلام" وسادة التطبيع... غير أنك خذلت انتظاري، ولم تأتِ.
حاولتُ أن أفسّر غيابك باحتفائك الغريب بالغياب: "قل للغياب نقصتني وأنا حضرتُ لأكملك"، غير أنني سرعان ما طردت هذا التبرير، متذكّراً سابقةً أخرى نقضت فيها عهدك مع أمك، حين وعدتها بأن لا تموت خجلاً من دمعها، لكنك فعلتَها ولم تخجل، على الرغم من أن الدموع التي طاردتك إلى قبرك تجاوزت عيون الأمهات والآباء، وفاضت مطراً إلى أعلى روحك، وهي ترتقي إلى الفضاء... كان أول مطر من نوعه يهطل من الأرض على السماء، يا من علمتنا مفارقات اللغة وكائناتها العابثة في الشوارع والأقمار.
كنتَ مشاغباً ولم تزل، ومن منا لا يحب شغب الشعراء؟ أليس أشد الأطفال شغباً أزيدهم حبّاً في قلوب ذويهم، حتى وإن أظهروا عكس ما يبدون؟ أمّا التحذير الإلهي من غواية الشعراء، فأظنه يصدر من تحبّب أيضًً؛ لأن المخلوقات ذاتها جاءت مزيجاً بديعاً من يدي فنان عظيم يحب الجمال، ويحتفي به شعراً ونحتاً وموسيقى، فكيف لا يحب الله كائناته الشعرية، خصوصاً إذا كانت على شاكلة محمود درويش؟
غير أن ذلك لا يطمس "اللّا حب" الذي استهللت فيه مشاعري حيالك، فـ"أنا لا أحبك"؛ ولم أزل متمسّكاً بهذه القناعة؛ لأنني مدركٌ أن على من يحبّك أن يفسّر، قبلاً، كيف شطرت الزمن الشعري إلى شطرين: شعر ما قبل درويش، وشعر ما بعده، لأنك لحظة فارقة، لا يعود ما قبلها إلى ما بعدها، لحظة تزلزل الثوابت، وتصهر المسلّمات، نمزّق فيها قصائد قرأنا قبلك، ونعيد اكتشاف الأرض، حتى في كرويّتها إن شئت؛ لأن ثمّة شاعراً أقنعنا بأن في وسع الدائرة أن تستطيل على وقع قصيدة "مديح الظلّ العالي"، وهيّأت لنا أن نشتمّ رائحة "الفيجن البريّ" في أرض قصيدتك العامرة بالعشب والأسرار. على من يحبّك أن يشاهد ظله "المكسور في البحر"، ليعرف أنه لم يكن غير ظلك الذي غادر بيروت ذات نكسةٍ ثوريةٍ فادحة، وليبحث عن تركتك في خيام اللجوء، والتقاط الأنفاس في مقاهي "الحمراء" ومباني "السفير". ثم عليه أن يعرف لماذا اخترت استئناف المنفى، عندما عاد الرفاق إلى وطنٍ لم تجد فيه "الوطن".
من يحبك، فعليه أن يتعلم سباق البروق مع الضوء، لا أن يخلد إلى مخادع السكينة؛ لأن المخدع خدعة الموت الأولى. عليه أن يتعلم أن "الشعراء ليسوا إلا أدوات الكون للتعبير عن ذاته"، كما قال الهندي طاغور.
بانخطاف لا مراء فيه: من يحبك، فعليه أن يهرب من حبك، يا صديقي، لأن الحب فضيحة كبرى إن لم يكن مرادفاً لقامتك التي لم تصطدم يوماً بسماء.. "أنا لا أحبكَ... كم أحبك".

دلالات

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.