أم مهيار تصنع خبزاً برائحة الوطن في غربتها

أم مهيار تصنع خبزاً برائحة الوطن في غربتها

13 ديسمبر 2014
لجأ عدد من العائلات السورية إلى فرنسا(جويل ساغيت/فرانس برس)
+ الخط -
مثلَ كثيرات، رحلت أمّ مهيار عن سورية. تركت بيتها في مدينة الرقة هرباً من بطش قوات النظام وتنظيم الدولة الإسلامية "داعش". هي أم لفتاة وثلاثة شبان. تقول: "في آخر يوم لي في بيتي في الرقة، أدركت تماماً أنني لن أراه مرة أخرى. تجوّلت بين غرفه، ونظرت طويلاً إلى تفاصيله". تضيف: "حين ينتابني الألم، أقول لنفسي إن خسارة بيت وغيره من الأمور التي ارتبطت بيومياتي في سورية، لا تعني شيئاً بالمقارنة مع فقدان عائلات أخرى أبناءها على سبيل المثال. على الأقل، جميع أفراد عائلتي إلى جانبي".

شاركت أم مهيار وجميع أفراد عائلتها في الثورة منذ انطلاقتها، بخاصة مع بداية الحراك في الرقّة. لاحقتهم قوات النظام وتعرض أحد أبنائها للاعتقال. ذلك لم يمنعهم من مواصلة العمل والمشاركة في التظاهرات والنشاطات الثورية المختلفة. رقصوا فرحاً في بداية الثورة، ليكونوا جزءاً فاعلاً في الحراك المدني.

تُضيف: "كان النظام يهادن القبائل في الرقّة، فلا يعتقل النساء أو يتعرض لهنّ. لكن لم تكن لدى عناصر "داعش" أية محرمات. كانوا يلاحقون النساء الناشطات، حتى في مجال الإغاثة، ويقمعونهن بهمجية". تتابع: "الأسوأ من كل ذلك كان احتلال داعش للمنازل. كان ذلك أقسى وأصعب ألف مرة. لا أتحمل أنهم الآن هناك يعبثون بكل قطعة من أثاث بيتي، أو يتجولون في غرفنا وينامون على أسرّتنا، أو يأكلون بصحوننا. تلك الفكرة وحدها قادرة على إيقاظ كل أوجاع العالم في داخلي".

كانت مدينة غازي عنتاب التركية محطة النزوح الأولى لعائلة أم مهيار. صاروا أمام معاناة من نوع آخر. تقول الوالدة: "تتغيّر أولويات الحياة وتتبدل مخاوف الناس وهمومهم. نفكر فقط في تأمين مستلزمات العائلة اليومية للاستمرار. بدأنا البحث عن سكن مناسب وعمل، ومناقشة احتمالات السفر إلى أماكن أكثر أمناً واستقراراً، على غرار أوروبا". بقيت العائلة في تركيا لمدة سنة تقريباً. كانت تعاني من ألم الفراق، عدا عن مصاعب الحياة اليومية واللغة الجديدة وقوانين البلد المختلفة، قبل أن يحالفها الحظ باللجوء إلى فرنسا.

مع اقتراب موعد السفر إلى فرنسا، شعرت أم مهيار بفرح حقيقي، هي التي كانت ترغب في حياة مختلفة وآمنة لأولادها. شعرت أيضاً بقلق وخوف من المجهول. لكن مشاعر الفرح هذه اختلطت مع مشاعر الحزن. أدركت أنها سترحل إلى الأبد،

بعدما ضاع وطنها. تتابع: "من يهاجر لا يعود بمقدوره تقديم أي شيء للثورة، التي يصنعها فقط من هم داخل البلد. أمّا نحن، فكان لنا شرف المشاركة فيها. وسيرافقنا وجعها ما حيينا".
في البيت الجديد الذي سكنته أم مهيار، سعت إلى الحفاظ على كثير من تقاليد بلادها. أكان ذلك من خلال أثاث المنزل، أو الملاءات، وخصوصاً وجبات الطعام. حرصت على إبقاء ذلك الخيط مع سورية. الأطعمة السورية حاضرة دائماً. لم تنس الزعتر. فقد أصرت على حمله معها إلى فرنسا. أكثر من ذلك، صارت تصنع أرغفة الخبز، علماً أنها لم تكن تعده في بلادها.

تتابع أم مهيار: "قد نعتاد كثيراً من الأطعمة الجديدة الفرنسية. لكن الخبز شيء آخر. على الرغم من أنني لم أكن أصنع الخبز في سورية، إلا أنني أصر على الخبز اليوم لأحافظ على ارتباطي ببلدي. لا أكترث للتعب والإرهاق. المهم أن الخبز الذي أعده يذكرني برائحة الوطن".

قبل أن يغادروا سورية هرباً من الحرب، يملأ السوريون حقائبهم بما استطاعوا إخراجه على عجل من بيوتهم. الحمل الأكبر يبقى في أرواحهم المتعبة. تغيرت أحلامهم. حتى ذكرياتهم باتت مصحوبة بألم، وأصوات من رحلوا. كلّما أغمضوا عيونهم، يتذكرون بيوتهم وحدائقها والمحال التجارية والأرصفة والناس الذين تركوهم. تختم أم مهيار كلامها قائلة: "بالرغم من كل ما عانيناه أثناء وجودنا في الرقّة، والرعب، وأصوات الطائرات التي كانت تحلق في السماء فوق رؤوسنا لترمي حممها وبراميلها المتفجرة فوق رؤوسنا، وحزننا على الذين قُتلوا لمجرد أنهم حاولوا العيش بحرية، لن أنسى ذلك الفرح الذي شعرنا به مع انطلاق الثورة. لأول مرة في حياتنا، تذوقنا طعماً مذهلاً لشيء لم نعرفه أبداً من قبل، وهو الحرية".

تكرر أم مهيار مراراً ما قاله لها زوجها يوماً: "لو تركوا لنا مساحة صغيرة على الرصيف نستطيع أن نقوم فيها بما نريد، ما كنا لنغادر البلاد يوماً. لكنهم أخذوا مدينتنا وسرقوا أجمل ما صنعت أيدينا، ذلك الحلم الذي كنا على وشك تحقيقه".

دلالات