أمّهات انتحاريات

أمّهات انتحاريات

08 ديسمبر 2015
أمهات يخالفن الطبيعة (فرانس برس/GETTY)
+ الخط -
أمهات يقررن بكامل وعيهن وعن سابق تصور وتصميم، تنفيذ عمليات انتحارية، تاركات خلفهن أطفالاً صغاراً، بل حتى رضعاً، من أبسط حقوقهم أن يعيشوا طفولة طبيعية في حضن أم ترعاهم.

وبصرف النظر عن الجهات التي تقنع الأمهات بالانتحار، أو تدفعهن نحو الموت، ليتركن أطفالهن أيتاماً، فنحن أمام توجه بات قائما، لكنه يعد خللا إنسانيا وانفصاما كليا عن الطبيعة الإنسانية.

ومع اجتهاد القواميس في تعريف الأمومة باعتبارها "أقوى الروابط الإنسانية"، وتفصيل الأديان والعلوم والآداب والفنون منزلة الأم بين البشر. يتعلم أطفالنا بالتلقين مرة وبالتعامل الأمومي اليومي معهم مرات، أن الأم احتضان ورعاية وعاطفة وتوعية وتربية...، ويدركون وهم يكبرون رويداً رويداً أن أمهاتهم "خلطة سحرية" يصعب اختصار وصفها بالكلمات.

كل الأمور تسير وفق الطبيعة البشرية السوية، إلى أن يصفعنا سلوك يخرج عن تلك الطبيعة، سلوك لا يمت للأمومة بصلة، سلوك يصعب تصنيفه.

آخر الأمهات التي نفذت الاعتداء في كاليفورنيا كانت تاشفين مالك، باكستانية عمرها 29 سنة، متزوجة من سيد فاروق عام 2014، في أميركا، ولديهما طفل عمره ستة أشهر فقط. هي إذاً أم لا زالت من حيث الطبيعة مرضعة، وطفلها يعتمد على حليبها لتغذيته، وإن كانت قد بايعت تنظيم الدولة الإسلامية وأبو بكر البغدادي، وأخذت قرار تنفيذ الاعتداء في سان برناردينو في كاليفورنيا فعلا، فقرارها لم يكن شخصياً ولا وليد اللحظة، بل هو عمل مخطط له، هو فعل جعلها تتخلى عن أمومتها.

وإن لم تكن تاشفين قد زنرت خصرها بالمتفجرات، واكتفت بإطلاق النار من رشاش أو سلاح آخر، إلا أن عمليتها تصنف على أنها انتحارية، لأنها بلا شك كانت تدرك عواقب عمليتها. حملت سلاحها وانطلقت بهدف واضح، وبنتيجة شبه مؤكدة، وهي الموت.

لا نجزم أن أول الأمهات الانتحاريات كانت الفلسطينية ريم صالح الرياشي التي نفذت عملية انتحارية عام 2004، والتي كانت يومها أماً لطفلين أحدهما رضيع. شغلت ريم وسائل الإعلام وقتها، ولن ننسى مواقف الاستغراب والاستنكار الشعبية لإقدامها على العملية الانتحارية كونها أماً، رغم بعض التأييد السياسي.

نماذج الأمهات المناضلات على مدى التاريخ لا تعد ولا تحصى، ونرفع رؤوسنا تقديراً لتضحياتهن، فهن القدوة التي تربي الأجيال على المطالبة بالحق والتمسك به والاستشهاد في سبيله إن تطلب الأمر ذلك.

وتتحول أشكال نضال النساء والأمهات خصوصاً إلى دروس في الوطنية والدفاع عن الوجود والإنسانية، وأقرب النماذج لنا هو الأمهات الفلسطينيات اللواتي يهبن أرواحهن كل يوم وكل ساعة لمحاربة عدو إسرائيلي يغتصب الحق بالأرض وبالحياة.

وحتى لا يحيد الطرح عن سياقه، ويظهر كأننا ضد ممارسة المرأة للعمل النضالي بالمطلق، نقول إن النساء هن وقود أساسي لأي حرب في التاريخ، في حال شاركن مباشرة أو لم يشاركن في القتال، وطالما كان النضال أحد واجبات المرأة في ظروف عدة، فلائحة "الشهيدات" اللواتي سقطن في الدفاع عن أوطانهن طويلة، وبعضهن كن أمهات.

لكن يبقى للعمليات الانتحارية المعدة سلفاً إشكاليتها الخاصة، وهذا ما يدفعنا لسؤال: هل من حق الأم أن تقرر الموت تاركة أطفالها؟ وهل تسمو القضايا والعقائد فوق الأمومة؟

الأمومة لا تغيرها جنسية أو دين أو هوية، ولا تختلف طبيعتها باختلاف الأمكنة، لكن يبدو أن "التطرف" تجرأ على تغييرها.


اقرأ أيضاً: "رحلة حبّ" بالرضاعة

المساهمون